من القامشلي إلى دمشق … كيف تسحب الحكومة السورية الدولار ؟
زانا العلي – عبدالله يوسف – نورث برس
في مدينة القامشلي، التي تعتبر مركز ثقل اقتصادي هام في شمال شرقي سوريا، تعمل مجموعات تجارية تتألف من أشخاص ينشطون بشكل فاعل في التحكم بسوق الصرف والموارد المالية، ما يؤثر على الوضع الاقتصادي في المنطقة.
يقوم هؤلاء الأشخاص بسحب الدولار من المدينة وضخه إلى العاصمة دمشق ما يتسبب بارتفاع أسعار المواد الغذائية والسلع الأساسية في الأسواق المحلية.
في هذا التقرير تكشف وكالة "نورث برس" آليات عمل هذه المجموعات والأسباب الرئيسة التي تدفع بعض التجار للقيام بهذا النشاط.
"سرقة أمام الجميع"
منذ نهاية العام 2012 يعيش السكان في سوريا كابوساً اقتصادياً تفاقمت وطأته تدريجياً حتى وصل ذروته نهاية العام الفائت ويستمر حتى الآن، نتيجة ما منيت به الليرة السورية من هبوط حاد إذ تخطى سعر صرف العملة المحلية حاجز الألف ليرة سورية مقابل الدولار الأمريكي الواحد.
وارتفع سعر صرف الدولار مقابل الليرة بشكل كبير منذ مطلع العام الجاري, فخلال مدة /15/ يوماً, قفز من /900/ ليرة مقابل الدولار الواحد إلى أكثر /1200/ ليرة سورية, وسط سخط من قبل الشارع المحلي، بالتزامن مع عجز الحكومة السورية عن فعل أيّ شيء إزاء الوضع القائم، إذ خرجت الأسواق عن السيطرة.
لكن الأمر يبدو مختلفاً عن التصور العام بناءً على الشهادات التي حصلت عليها "نورث برس" من سوق الصرف في القامشلي وبعض البلدات المجاورة.
يقول صاحب محل صرافة اشترط عدم نشر هويته، "يسرقوننا أمام الجميع, ويتلاعبون بالأسعار, (….)، يحققون الأرباح من فروقاتها ثم يختفون".
وأضاف "العملة السورية تدخل إلى سوق القامشلي بواسطة سيارات شحن متوسطة (أنتر) بين الحين والآخر".
من خلال تقاطع الشهادات التي وثقتها "نورث برس" وتحفظت على نشر هوية أصحابها، فإن هذه المجموعات تقوم بشراء مبالغ كبيرة من الدولار في السوق وترسله عبر مطار القامشلي إلى دمشق بهدف ضخها لاحقاً في خزينة مصرف سوريا المركزي، "لكن هذه العملية ونظراً لزيادة الطلب على الدولار تتسبب بارتفاع سعره وبالتالي ارتفاع أسعار السلع في الأسواق".
"عملاء للنظام"
وتجري معظم عمليات تداول العملات الأجنبية في سوق القامشلي عبر غرفة تضم مجموعة من التجار على تطبيق واتس آب. تديرها لجنة مكلفة تتبع للإدارة الذاتية, تقتصر مهمتها على توثيق عمليات البيع والشراء وفض الخلافات المحتملة بين التجار، وفق المعلومات التي حصلنا عليها بعد الاطلاع على بعض المحادثات التي جرت في هذه الغرفة.
ولا يوجد سقف للتداول حيث بإمكان التاجر شراء أو بيع المبلغ الذي يريده في العملية الواحدة.
يقول أحمد (اسم مستعار)، وهو صاحب محل صرافة في القامشلي، إن "هناك أشخاصاً معروفين في سوق القامشلي يقومون بين فترة وأخرى بشراء مبالغ كبيرة من الدولار عبر هذه الغرفة على شكل دفعات لسحب العملات الأجنبية من السوق وهو ما يؤدي لارتفاع سعر الصرف".
من خلال الاطلاع على مجموعة التجار على تطبيق "واتس آب"، تبين أن أحد أصحاب محلات الصرافة خسر مبالغ مالية كبيرة, بسبب ما وصفه بـ"التلاعب" وفق تسجيل صوتي أرسله إلى المجموعة، والخسارة التي مني بها جاءت نتيجة ارتفاع مفاجئ لقيمة الدولار في وقت سابق.
وبحسب ما جاء في التسجيل فإن التاجر ينهال على بعض التجار بالشتائم ويقول "أنا أعرفهم، يقومون بشراء الدولار وسحبه من القامشلي، إنهم عملاء النظام، يشترون له الدولار".
خارجون عن سلطة الإدارة الذاتية
يتهم أصحاب محلات صرافة في المدينة المجموعات التي تعمل على سحب الدولار من الأسواق بارتباطها بـ"الخلية الاقتصادية" التي يقولون إن الحكومة السورية قد أنشأتها في وقت سابق.
يقول إبراهيم حفطارو، وهو صاحب محل صرافة وسط المدينة، إن خلية الأزمة الاقتصادية التابعة للحكومة السورية هي أهم أداة لديها للتحكم بجميع الأسواق في سوريا.
وتقوم هذه الخلية بإعداد دراسات تتعلق بتحديد قيمة رواتب الموظفين أو بكيفية توزيع ما يدرُّه البترول من أموال وتحديد سعره، "لكن أهم ما تقوم بها هذه الخلية هو التدخل في سوق العملات للتحكم بسعر الصرف في السوق السوداء".
ويرى حفطارو أن الخلية "تتلاعب بالسوق السوداء بحيث تحقق أعلى الأرباح لمصلحة النظام السوري، (….)، النظام يسرق من المواطنين ليسدد رواتب الموظفين".
ويذهب إلى القول أيضاً بوجود تجار تابعين للحكومة السورية في الأسواق الخاضعة لسيطرة الإدارة الذاتية ويتدخلون في السوق "بأوامر من النظام".
وقال "الدولة ترسل الأموال بالليرة السورية لتجار في القامشلي بواسطة طائرة الشحن "يوشن" فهي الوسيلة الوحيدة، ثم يقوم هؤلاء التجار بشراء الدولار من الأسواق في مناطق الإدارة الذاتية ويرسلون المبالغ إلى مناطق سيطرة الحكومة وخصوصاً إلى دمشق العاصمة".
وكشف ياسر محمد، وهو صاحب إحدى محلات الصرافة في تربه سبيه/ قحطانية، 30 كم شرق القامشلي، أنه وعند الارتفاع الجنوني لسعر صرف الدولار مقابل الليرة السورية في كانون الثاني/ يناير الماضي, والذي وصل إلى /1200/ ليرة سورية للدولار الواحد, قررت إدارة مجموعة الصرافين عدم التعامل بالعملات الأجنبية بهدف الحد من هبوط الليرة.
"لكن أحد التجار في القامشلي خالف القرار وبدأ بالتعامل بالدولار، مرجعاً السبب إلى طلب الحكومة السورية منه شراء الدولار" وهو ما اعتبره البعض خروجاً عن سلطة وقرارات الإدارة الذاتية في المنطقة.
وبحسب محمد فإن الحكومة السورية تؤمن رواتب الموظفين من خلال المضاربة في السوق، عبر عملية شراء الدولار بكميات كبيرة حتى يرتفع سعره تدريجياً، ومن ثم بعملية عكسية تبيع ما اشترته من دولارات في السوق دفعة واحدة لتحقق بذلك مكاسب مرتفعة تؤمن احتياجاتها من العملة المحلية.
لماذا القامشلي؟
يرى مراقبون للشأن الاقتصادي أن مناطق الإدارة الذاتية تعتبر مركز ثقل اقتصادي من جهة حجم العملات الأجنبية التي تتدفق إليها نظراً لوجود منظمات دولية بالإضافة إلى وجود قوات من التحالف الدولي ضد "داعش" في المنطقة، إلى جانب الحوالات الخارجية التي تصل المنطقة من المهاجرين.
وقال مسؤول كبير في الإدارة الذاتية، مطلع على الملف المالي في المنطقة، إن نحو عشرة ملايين دولار تدخل إلى القامشلي شهرياً عبر المنظمات وطرق أخرى.
وأضاف المسؤول أن من بين هذه المبالغ هناك أكثر من مليوني دولار يرسلها المقيمون في الدول الأوروبية إلى عائلاتهم في المنطقة.
وتحتوي القامشلي على أكثر من مئة مكتب للحوالات المالية.
ويدرُّ النفط ومشتقاته ملايين الدولارات على المنطقة بشكل شهري، بالإضافة إلى واردات المعابر والجمارك، فضلاً عن ورادات المحاصيل الزراعية.
قيود على إرسال الليرة إلى دمشق
في الآونة الأخيرة امتنعت شركات الحوالات الخاصة بتحويل العملة السورية داخلياً والمرخصة من الحكومة، عن تحويل مبالغ تزيد عن /200/ ألف ليرة سوريا خلال اليوم الواحد من القامشلي والمناطق غير الخاضعة لسيطرة الحكومة إلى المناطق الخاضعة لسيطرتها.
ففي التاسع من شباط/فبراير الماضي، حاول محمد رمضان (35عاماً)، وهو من سكان القامشلي، إقناع موظف "شركة الهرم للحوالات الداخلية" بتحويل مبلغ إلى دمشق إلا أن الموظف حسم الأمر إذ أن "سقف الحوالة يجب أن لا يتجاوز 200 ألف ليرة".
وشركة الهرم هي واحدة من بين خمس شركات مرخصة من الحكومة في القامشلي، (البيان، شامنا، حافظ، إرسال)، يقتصر عملها على تحويل الأموال داخل سوريا وبالليرة السورية.
وقال خورشيد عليكا، وهو مراقب في مجال الاقتصاد، إن الحكومة السورية "تحاول ضبط كمية النقود المحولة إلى مناطق سيطرتها", لأن زيادة التحويلات من مناطق الإدارة الذاتية من الليرات السورية إلى مناطق الحكومة يعني زيادة العملة المحلية في مناطق سيطرتها وبالتالي زيادة الطلب على العملات الأجنبية.
وقال إبراهيم حفطارو إن من أسباب توقف مكاتب الحوالات إرسال مبالغ مالية تزيد عن /200/ ألف للحوالة الواحدة في اليوم الواحد، في الشركات المرخصة من قبل الحكومة السورية, "هو تحكم دمشق بالتدفقات النقدية من المناطق غير الخاضعة لسيطرتها إلى مناطقها".
محاولات للتحكم بالسوق السوداء
تحاول الحكومة السورية، وباستمرار ضبط سعر صرف الليرة السورية، والذي يشهد انهياراً أمام العملات الأجنبية، وذلك عبر فرض عدة إجراءات سعت من خلالها للحد من التعامل بالدولار الأمريكي من قبل المواطنين.
ومن هذه الإجراءات، إصدار الرئيس السوري بشار الأسد في 18كانون الثاني/ يناير الماضي، مرسوماً قضى بتشديد العقوبات على المتعاملين بغير الليرة السورية، كتعديل على المادة الثانية من المرسوم التشريعي رقم /54/ لعام 2013.
وتَبعَ المرسوم إعلان مصرف سورية المركزي، استعداده لشراء الدولار من المواطنين بسعر صرف مرتفع، حدد بـ/700/ ليرة سورية للدولار الأمريكي الواحد في حين كان محدداً في السابق بـ/435/ ل.س مقابل الدولار الواحد. كما أعلن المصرف عن إغلاق /14/ مؤسسة صرافة، "ضمن سلسلة إجراءات يتخذها المصرف مؤخراً"، لوقف عملية انهيار الليرة أمام العملات الأجنبية.
"وزرعت هذه الإجراءات الخوف بين المواطنين والتجار" فلجؤوا إما إلى بيع الدولار للمصرف الحكومي بسعر /700/ ل س للدولار الواحد (أقل من سعر الصرف في السوق السوداء والتي يتخطى قيمة الدولار الواحد فيه 1000 ليرة منذ أكثر من شهرين)، أو يمتنعون عن تداول العملات وبالتالي تقلل الحكومة من أثر السوق السوداء على سعر الصرف، وفق مراقبين.