قراءة أولية في اتفاق موسكو: المكاسب والخسائر والرسائل
الرياض – نورث برس
أنهى اتفاق وقف إطلاق النار بين روسيا وتركيا في إدلب، أمس، صلاحية الخطاب السياسي والإعلامي التركي منذ أكثر من شهر بخصوص المعارك الدائرة هناك. فالمهلة التي هدد بها الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الحكومة السورية، مراراً، شاهدٌ على التراجع التركي الكبير في المفاوضات التي جرت بين الجانبين في موسكو.
فقد بنت المعارضة السورية آمالها على خطه الأحمر، أي المهلة الممنوحة القوات الحكومية بالانسحاب من سراقب ومعرة النعمان وعشرات القرى الأخرى، وبدا لوهلة أن تراجعه عما هدد به سيكون فضلاً عن قبول الواقع الجديد، إهانة له ولبلاده، غير أن الاتفاق الذي أعلن عنه مسؤولو البلدين في مؤتمر صحفي تضمن بنوداً مفاجئة، لم تكن في الحسبان. فكانت التوقعات، بالنظر إلى حجم تهديدات أردوغان واندفاع قواته رغم الخسائر الصادمة، أن تكون الدوريات المشتركة على طرق حلب – دمشق، الواقع حالياً تحت سيطرة الحكومة السورية ، وليس طريق حلب – اللاذقية، الذي يمر من العمق المتبقي لمناطق المعارضة وهيئة تحرير الشام.
اتفاق وقف إطلاق النار، على هشاشته المتوقعة ميدانياً، إلا أنه كرّس واقعاً جديداً على مستويين، الأول نهاية الرؤية التركية لاتفاق سوتشي بشكل غير قابل للرجعة، بما يعنيه ذلك من تخلي أنقرة نهائياً عن جهود استعادة المناطق التي سيطر عليها القوات الحكومية مؤخراً، وهو انتصار مهم لبوتين. أما الثاني، فهو الطابع المؤقت لاتفاق موسكو، فبوتين "جدد التأكيد على ضرورة الالتزام بمبادئ استقلال سوريا وسيادتها ووحدة أراضيها ومواصلة مكافحة الإرهاب فيها واستعداد البلدين لمتابعة العمل في إطار عملية أستانا لحل الأزمة"، وهو ما يشير إلى أن الاتفاق في أحد وجوهه الأكثر أهمية، يعتمد على تجزئة العمليات العسكرية على فترات زمنية بدلاً من صيغة الحملة الشاملة التي كانت معتمدة. في المقابل، كسب أردوغان بعض النقاط الصغيرة أيضاً. فالاستياء الداخلي بدأ يتصاعد ضد توريطه تركيا في حرب مباشرة مع روسيا، رغم تفادي الجانبين التصريح عن ذلك علناً، وهذا ما أدى إلى ارتفاع قتلى الجنود الأتراك إلى أكثر من 60 في شهر. فالاتفاق الذي عجزت وسائل إعلام أردوغان عن تصويره كانتصار باهر، يمنحه فرصة التقاط الأنفاس داخلياً، وتقليل حوادث مقتل الجنود حيث باتت هذه القضية الشغل الشاغل للأحزاب المنافسة للعدالة والتنمية، وتسببت بشجار عنيف بين النواب داخل البرلمان.
ودولياً أيضاً فشلت تركيا في الحصول على دعم صريح من حلف الناتو، أو حتى من الدول الأعضاء بشكل ثنائي، رغم محاولات المبعوث الأميركي إلى سوريا، جيمس جيفري، الذي أقر قبيل ساعات من التوقيع على اتفاق موسكو، في تصريح نادر، أن دوائر القرار في واشنطن منقسمة بخصوص تركيا، فكان بمثابة إعلان لفشل مشروعه المتمثل في تحويل تركيا إلى خصم لروسيا وإيران في سوريا.
في إطار التصريحات التي صدرت عن الجانبين بُعَيد التوقيع، لم تخسر روسيا شيئاً سوى تخفيض وتيرة العمليات العسكرية التي من المتوقع أن تستمر على شكل قصف متبادل بين الفصائل والقوات الحكومية، من دون تحرك بري كبير من كِلي الجانبين.
بمعنى، امتناع روسيا وتركيا عن المشاركة المباشرة في العمليات في الوقت الحالي، إلى حين تثبيت الحدود الجديدة لاتفاق سوتشي. أما المكسب الأخطر لروسيا من وراء الاتفاق فيكمن في أن اتفاق سوتشي بات مرناً في اتجاه واحد فقط، وهو اتجاه توسيع الحكومة السورية مساحة سيطرته تدريجياً، وعلى تركيا، وفق هذه الرؤية، الالتزام بأن حدود سوتشي صلبة، غير قابلة للاختراق في الاتجاه المعاكس، المضاد لمناطق سيطرة الحكومة.
بالنسبة للحكومة السورية، هنالك نقطة حيوية تشغل الدوائر الضيقة العليا فيه، وهو كيفية عدم عودة سكان البلدات إلى إدلب في الوقت الحالي. ويرجح إطالة أمد حالة "الحرب الخامدة" المعرضة للانفجار في أي لحظة، أما النازحون فيمكنهم إلى ذلك الحين تدبر أمرهم والتفكير بحلول طويلة الأمد لأنفسهم.
بقيت هناك بعض المسائل غير الموضحة حالياً، مثل مصير نقاط المراقبة التركية الواقعة في مناطق سيطرة قوات الحكومة السورية، وما إذا كانت ستصبح وظيفتها ما تقوم به المخافر، وكذلك مصير السلاح الثقيل التركي في نقاط المراقبة. ولم يتم التطرق إلى مسألة المجال الجوي كذلك، مع أنه كان من المتوقع أن ينتزع الأتراك على الأقل حق مراقبة المنطقة العازلة على جانبي طريق "M 4" جواً.
في المؤتمر الصحفي الخاص بالإعلان عن الاتفاق، حاول أردوغان حشر "شرق الفرات" في الأمر عبر قوله: "نود أن نستمر في تعميق علاقات التعاون (مع روسيا) التي تشمل العملية السياسية حول سوريا والأوضاع شرق الفرات"، من دون أن يسهب أو يشرح ما الذي ينويه هناك، والمعروف عنه أنه يستغل مثل هذه المناسبات لتوجيه رسائل للداخل التركي بأن جهوده مثمرة في مكافحة الخطر الكردي الذي يطلقون عليه تسميات أخرى.
لا تزال المخاوف قائمة لدى تحالف شرق الفرات من أن يتضمن الاتفاق بنوداً سرية لتعويض تركيا عن خسارتها الكبيرة في إدلب، بما أن الاتفاق لم يحمل أي انتصار لتركيا هناك، غير أن المعطيات المعلنة، وما بين سطور المعلن عنه، والأجواء المرافقة للحدث، لا تشير إلى أن هناك صفقة بين الجانبين في الوقت الحالي. وموسكو ليست بحاجة إلى مثل هذه الصفقة وتصفية مشروع الإدارة الذاتية، حالياً، طالما أن روسيا ضمنت وجوداً قوياً لها في شرق الفرات، في انتصار استراتيجي كبير لبوتين في منطقة كانت تعرف بـ"ساحة أمريكا" في سوريا.
مع ذلك لدى الأتراك صيغ إقناعية قد تفيد مسعاهم التخريبي، فالإدارة التركية يمكنها أن تقترح على موسكو أن أي توسع جديد لها شرق الفرات سيكون مؤقتاً، فهذه الدولة يكفيها فعلاً وجود مؤقت من سنة إلى ثلاث سنوات، لأن وظيفتها تدمير العمران القائم كما فعلت في عفرين وتفعل في سري كانيه وكري سبي (رأس العين وتل أبيض).
في المقابل، لدى روسيا صيغة أخرى في شرق الفرات، وهو أن تتولى القوات الحكومية بنفسها عملية عسكرية هناك ضد قوات سوريا الديمقراطية، والأرجح أن لا صدفة في ما قاله بشار الأسد قبيل توقيع اتفاق موسكو، حول أن الأولوية لإدلب حالياً وبعد ذلك التوجه إلى المناطق الشرقية.
واستنادا إلى مقابلة الأسد مع قناة روسية، وتصريحاته بخصوص أن الكرد ضيوف على سوريا، ولا قضية كردية، فلا جدال في أن شرق الفرات حاضر في اتفاق موسكو بصيغة أخرى خارج البنود، وهو تعهد الحكومة السورية بعدم القبول بأي حل تفاوضي مع قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية.