عدنان منصور
لعل جملة "إنجازات ميدانية نوعية" في بيان، القوات الحكومية السورية المتلفز في 26 شباط/ فبراير الجاري، قد اختصر هدف دمشق في المرحلة الحالية وعلى المدى المنظور حيال العملية العسكرية شمال غربي البلاد.
إلا أن اللافت أن عمليات التقدم والسَّيطرة و"الإنجازات" المشار إليها، في البيان، تقف عند أبواب المرحلة الأصعب، وسلم الأولويات بالنسبة لدمشق، لكن ما صرح به الرئيس السوري بشار الأسد في الـ17 من الشهر الجاري، خلال حديث مسجل بثته منصة "رئاسة الجمهورية" على موقع فيس بوك حول التطورات الأخيرة واستمرار المعركة التي وصفها بـ"تمريغ أنوف الأعداء بالتراب"، ربما تحمل مؤشرات عن مدى صعوبة هذه المرحلة بالنسبة لكافة أطراف النزاع عموماً وبالنسبة للمعارضة المسلحة خصوصاً.
ويستدرك الأسد في التسجيل المصور ذاته، أن المعركة مقدمة لـ"الهزيمة الكاملة"، لكن أي معركة هي الأسبق ستكون؟!، هل معركة استعادة كامل غربي محافظة حلب؟! أم استعادة ما تبقى من محافظة حماة برفقة أجزاء من إدلب؟! أم استعادة ما تبقى من اللاذقية؟! أم معركة بينيّة تجمع أجزاء من عدة مناطق مجتمعة، فبينما الخيارات في المحافظات الأربع مفتوحة، يبقى السؤال الأهم الواجب طرحه، لمن ولأيٍّ الأولويَّة؟!.
ما وراء خيار الحرب
لأن بندقية اليوم سترسم مستقبل الغد، وحرب الآن ستثمر في نهايتها عن بنود الاتفاق القادم، فقد فضّلت الحكومة السوريَّة خيار الحرب والعمليات العسكرية.
إذ يرى مراقبون أن تفضيل الخيار هذا يأتي كضمان قوة أكبر في المفاوضات المقبلة، ومحاولة استغلال تراجع الدعم التركي -قبل بدء التناحر بين القوّات التركية والحكوميَّة السوريَّة- لاستعادة مزيد من المناطق، إذ أن الحكومة التي كانت تسيطر في مطلع العام 2019، على أقل نسبة من الأراضي السوريَّة، بنحو 17% من مساحة البلاد، بدأت باستعادة السَّيطرة عقب اتفاق آستانة في أيَّار/ مايو من العام 2017، لتعود وتحتل المرتبة الأولى في أكبر نسبة أراضٍ تحت سيطرتها، مستغلة تظاهر المعارضة بالالتزام بوقف إطلاق النار في سبيل محاربة تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) والانضمام لمحور قتال الإرهاب العالمي والخطر الأكبر في القرن الحادي والعشرين، وفق ما يراه مراقبون للصراع ضمن سوريا.
إحصاءات المعركة الأخيرة
فرضت المعارك الأخيرة التي بدأت منذ /33/ يوماً سيطرة واسعة للقوات الحكوميَّة، بلغت حوالي /250/ بلدة وقرية ومدينة، كانت أبرزها سراقب وما تبقى من مدينة حلب ومعرة النعمان، وفق إحصاءات متفرقة للمرصد السوري لحقوق الإنسان.
تسابق المحاور وأولوياتها
هذه المعارك ابتعدت جغرافياً بشكل كبير عن محور منسي تحاول القوّات الحكوميَّة التحضير له مستقبلاً -بعد عجزها طوال السنوات السابقة عن استعادتها- فيما اقتربت منه معنوياً، وهو محور منطقة كبانة في جبل الأكراد الذي يتيح للقوات الحكوميَّة استعادة كامل محافظة اللاذقية، لتضمها إلى قائمة المحافظات التي استعادتها بشكل كامل، لكن خرائط رصد الصراع توضح تسابقاً ملحوظاً بين إعادة حماة أو اللاذقية بشكل كامل لسلطة الحكومة السوريَّة، لتكون ثامن المحافظات، بعد أن جرت استعادة دمشق وريف دمشق ودرعا والقنيطرة والسويداء وحمص وطرطوس، والتواجد الجزئي في محافظات الرقة ودير الزور والحسكة وحلب وإدلب وحماة.
العمليات القادمة للقوات الحكوميَّة قد تنطلق من أي محور، لكن هذا المحور الذي يخضع لخياري التكتيك والاستراتيجية، لن يكون فقط لاستعادة السَّيطرة على مزيد من المناطق أو لإرباك خصومها الذين لم يلملموا إلى الآن -وفق ما ينقله نشطاء من إدلب على حساباتهم في منصات التواصل الاجتماعي- بقاياهم من الهزائم المتلاحقة والخسائر الكبيرة التي تكبَّدوها، وبحسب ما نشرته مراصد ومنصات حقوقية متعددة مهتمة ومتخصصة بالشأن السوري، لذا فقد فرضت خريطة التحركات القادمة /4/ محاور على الأقل:
المحور الأول: هو المحور الممتد من منطقة الفقيع في ريف إدلب وصولاً إلى منطقة المشيك في سهل الغاب، ويبلغ طول هذا المحور بين الأماكن المحددة سلفاً نحو /18/ كلم، ويتيح التقدم في هذا المحور استعادة السَّيطرة على كامل سهل الغاب ذي الأهمية الاستراتيجية للحكومة السوريَّة ولأنصارها، وبخاصة من أبناء الطّائفة العَلويَّة التي تقطن المنطقة، وهو ما تبقى خارج سيطرة الحكومة السوريَّة من محافظة حماة، بالإضافة لاستعادة أجزاء من ريف إدلب الجنوبي.
المحور الثاني: هو المحور الممتد من لواء اسكندرون إلى جبل الأكراد في الريف الشمالي الشرقي للاذقية، حيث يمكّن هذا المحور القوّات الحكوميَّة من استعادة السَّيطرة على محافظة اللاذقية، وذلك عبر بدء الهجوم من زاوية جديدة ومحور غير متوقع، مع العلم أن كل التوثيقات السابقة أكدت أن القوّات الحكوميَّة ومعها القوّات الروسية والإيرانية وحزب الله تكبّدت خسائر كبيرة في هذا المحور الذي يعتبر محصناً بشكل طبيعي عدا عن التحصينات التي أنشأتها التنظيمات المتشددة المتواجدة في المنطقة من الحزب الإسلامي التركستاني وهيئة تحرير الشام، وغيرها من التنظيمات غير السوريَّة أو التي تضم مقاتلين في معظمهم من جنسيات آسيوية ودول الاتحاد السوفياتي السابقة، وجنسيات أخرى أوروبيَّة.
المحور الثالث: وهو المحور الأصعب الذي يحتاج قراره، إلى دعم عسكري قوي، وتحييد تركيا عن الدعم المباشر للعملية، ألا وهو محور بطول حوالي /40/ كلم يمتد من سراقب إلى جبل الأربعين، ويمكّن القوّات الحكوميَّة من استعادة السَّيطرة على كامل منطقة جبل الزاوية وسهل الغاب وجبل شحشبو والتضييق على جسر الشغور ومدينة إدلب، وحصر المعارضة المسلَّحة والتنظيمات المتشددة في بقعة جغرافية أصغر، والتي ستدفعها للجوء إلى مناطق عفرين وريف حلب الشمالي.
المحور الرابع: يتمثل بالمحور الممتد لمسافة 20 كلم، من منطقة الأتارب وصولاً إلى معبر باب الهوى الحدودي، والذي سيعزل مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام والحزب التركستاني وبقية الفصائل والتنظيمات المتشددة عن مناطق سيطرة الفصائل الموالية لتركيا التي شاركت في عمليتي "غصن الزيتون" و"درع الفرات"، في عامي 2016 و2018 بريفي حلب الشمالي والشمالي الغربي، وسيمكِّن القوّات الحكوميَّة من فتح المعبر واستخدامه في العمليَّة التجاريَّة في حال جرت التَّسوية بينها وبين الحكومة التركية.
إعادة المحافظة الثامنة
البيان العسكري الأخير من الجيش والقوّات المسلَّحة الحكومية، الذي تُلي يوم الـ26 من شباط الجاري، أوضح أهمية المحور الأول الذي جرى الحديث عنه سلفاً، والذي يتيح للقوات الحكوميَّة الاستفادة من المنطقة الجنوبية لإدلب ومن سهل الغاب، وإعادة المحافظة الثامنة إلى مضمار التسابق على النفوذ والصراع، قبيل الانتخابات الرئاسية المقبلة، التي يحاول الأسد فيها وأركان حكمه، منع أنفسهم بدعم روسيٍّ من التذلل لخصوم الدَّاخل، عبر توسعة نفوذهم واستغلال من يتبقى من المواطنين في هذه المناطق، والذين وقفوا على الحياد أو من المناصرين للحكومة والمتبقين في المنطقة في الانتخابات المقبلة.
وبين التكتيك والاستراتيجية لمعركة متواصلة تأخذ القوات الحكومية فيها بين الفينة والأخرى استراحة محارب، تغيب فيها عمليات استعادة المعارضة للسيطرة خصوصاً أنها زعمت سابقاً استعدادها لبناء مدن تحت الأرض والدفاع عن إدلب، وبين هذا وذاك تبقى الكارثة الإنسانية ملاحقة للمشهد، ليفتح احتمال أن تحاول أنقرة الإبقاء على عفرين لنفسها، عقب أكثر من عامين من السيطرة عليها بالتزامن مع ارتكاب قواتها "انتهاكات واسعة النطاق" فيها وفق ما تؤكده تقارير حقوقية وإعلامية، جنباً إلى جنب مع المحاولة الروسيَّة للوصول إلى إعلان النصر الحكومي على "إرهاب" تحرير الشام وحراس الدين والتركستان والمعارضة المتشددة، وخلط أوراق المعارضة "المعتدلة" بالمتطرفة، وهو ما قد يثير وفق مراقبين قلق واشنطن، والتي تؤكد حتى الآن أن لا حلول عسكرية للأزمة السورية، فهل استراتيجية الهدف القادم سيفتح معركة كبيرة أم سيبقى التقدم الضيق ديدن التكتيكات القادمة لعمليات هجوم الحكومة وأنصارها والمتحالفين معها؟! وهل سيسحب التقدم في شمال غربي سوريا البساط من تحت تركيا لفرض معادلة يبدو هدفها النيل من شمال شرقي البلاد بإدارتها الذاتية؟