أحمد اسماعيل
مرّ قرابةُ ثلاثة أسابيع دون أن تُسجّل غارات منسوبة لإسرائيل ضد أهداف إيرانية في سوريا أو العراق، ما طرح تساؤلا حول سبب ذلك، وما إذا كانت هناك موانع ومستجدات ظرفية تحول دون تنفيذها هجمات جديدة.
مصدر عسكري إسرائيلي قال لـ"نورث برس" إن تراجع كثافة الغارات الإسرائيلية لا يدل على تغير الاستراتيجية العسكرية لدى الدولة العبرية، وبالتالي لا توجد مؤشرات على تغيير سياستها الرامية إلى منع التموضع الإيراني في المنطقة نتيجة أي ضغط أمريكي أو رفض روسي.
ويضيف المصدر أن عدم الارتياح الأمريكي إزاء الغارات الإسرائيلية في العراق ليس سبباً كافياً لعدم تنفيذ غارات جديدة في هذا البلد، كما أن المعيقات الروسية بشأن النشاط العسكري الإسرائيلي في سوريا، لم يكن سبباً في غيابه الغامض بالأيام الأخيرة.
لا شك أن العامل المهم المتعلق بديناميكية الأحداث الحاصلة بالمنطقة، سواء فيما يخص تظاهرات العراق "الدامية" ضد الفساد، ثم تخلي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن كرد سوريا، قد اسكت صوت الغارات الإسرائيلية ولو اضطرارياً و"تكتيكياً".
لكن.. وفق معطيات رصدتها "نورث برس"، فإن السبب الحقيقي وراء ذلك يكمن في إدراك إسرائيل أن المخاطر ازدادت الآن وأن الساحة أصبحت أكثر تعقيدا وأن جميع الأطراف الفاعلة باتت تدرك ذلك.. ما دفع إسرائيل إلى التعاطي- عسكريا وأمنياً- بحذر وطريقة مغايرة في هذا الوقت تحديداً.
وارتباطاً بما سبق، فإن التطورات الأخيرة التي حصلت في المنطقة والأسلوب الذي استخدمته إيران في ضرب منشأتي نفط في "أرامكو" السعودية، أرّق إسرائيل وباتت تتلمس الخطر من تنامي القدرات الإيرانية في استهداف إسرائيل بصواريخ مجنّحة.. وتواصل المؤسسة العسكرية والأمنية دراسة الكيفية التي اتبعتها إيران في تنفيذ هجوم "أرامكو"؛ خشية استخدام نفس الأسلوب ضد الدولة العبرية.
وعاظمت تهديدات مسؤولين إيرانيين بـ"محو إسرائيل"، مخاوف الأخيرة، ما حتّم عليها أن تنتقل إلى موقع الدفاع والتأهب، على عكس الحالة التي كانت تنتهجها طيلة السنوات الأخيرة، حيث اتسمت ب"الهجوم" في سياق استراتيجية "بين الحروب".. وهذا ما يفسّر تراجع الهجمات الإسرائيلية نظرا للانشغال بالتتبع والرصد الاستخباراتي لما يجري، في ظل سياسة الضبابية والتعتيم الكامل التي تنتهجها المؤسسة العسكرية والسياسية في إسرائيل.
ولهذا التأم المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر "الكابينيت" قبل أيام، وذلك لأول مرة منذ شهرين من أجل مناقشة تزايد الخطر الإيراني. وقد حاول نتنياهو أن يدفع باتجاه مشروع دفاع جوي بتكلفة تقدر بمليارات "الشواقل"، في ضوء التوتر المتزايد مع إيران. وبالطبع فإن الهدف من المشروع هو تحسين قدرة إسرائيل على التعامل مع صواريخ كروز التي تمتلكها إيران. ومن نافل القول إن تمويل هذا المشروع، ستتحمله الحكومة المقبلة.
وحذر رئيس قسم الأبحاث في شعبة الاستخبارات الإسرائيلية في الأيام الماضية، من إمكانية إطلاق صواريخ مجنّحة على إسرائيل من العراق. وزادت حاجة إسرائيل إلى مشروع الدفاع الجوي، في أعقاب الهجوم على منشآت النفط السعودية، وهو هجوم منسوب إلى إيران.
وقد تضطر إسرائيل إلى اتخاذ خطوات تتعلق بالميزانية، لم تكن مضطرة لاتخاذها منذ سنوات.
مؤشر آخر على حرب العقول والاستخبار الجارية حالياً بين إسرائيل وإيران، هو مواظبة الدوائر الاستراتيجية في تل أبيب على تحليل المغزى من كشف قائد الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني- في هذا الوقت تحديداً- عن محاولة اغتيال فاشلة له من قبل إسرائيل اغتياله خلال حرب تموز 2006، ومروراً بما كشفه رئيس جهاز الاستخبارات في الحرس الثوري حسين طايب، مطلع الشهر الجاري عن إحباط إيران خطة "إسرائيلية – عربية" لاغتيال قاسم سليماني أثناء الاحتفال بذكرى عاشوراء الشيعية مؤخراً في محافظة كرمان في إيران.
ويذهب المعلق السياسي الإسرائيلي يوني بن مناحيم، في مقال بعنوان "رسالة من إسرائيل؟: قاسم سليماني مستهدف"، إلى الاستخلاص بأن الكشف عن خطة لاغتيال الجنرال قاسم سليماني، يشير إلى "أن سليماني يشكل خطراً كبيراً على أمن إسرائيل ويجب إزالته من الساحة".
ويعتبر بن مناحيم أن محاولة الاغتيال الفاشلة تزيد من فرص رد إيراني ضد إسرائيل وضد أهداف إسرائيلية ويهودية في الخارج، ويتعين على إسرائيل زيادة مستوى تأهبها والاستعداد كما يقتضي الأمر.
وبحسب خبراء استخباراتيين، فإن الرسالة الإيرانية لإسرائيل مزدوجة وواضحة وهي: "إيران تعرف أن الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس مستهدف من إسرائيل؛ وهي تثق بقدراتها الاستخباراتية على منع الاغتيال، وأن الرد الإيراني على ذلك سيأتي قريباً".
ولأن هجوم "أرامكو" يشغل رجال الاستخبارات والسياسة في إسرائيل وحتى المحللين، فإن المحلل السياسي ايال زيسر، يرى في مقال كتبه في صحيفة "إسرائيل اليوم"، أن القصة الحقيقية وراء هجوم إيران الصاعق تكمن في أنه كان "مفاجأة مطلقة" – سياسياً وعسكرياً – لم يتنبأ بها أو يتوقعها أحد؛ لا السعوديون الذين كانوا هدفاً للهجوم، وأيضاً ليس الولايات المتحدة، ولا حلفاؤها كما يبدو.
ويعتقد زيسر أن الافتراض بأن الإيرانيين يعلمون أن "إسرائيل، بعكس السعودية وحتى واشنطن، ليست مستعدة لأن تدير خدها الثاني عندما تتعرض للضرب". ومع ذلك، يدعو زيسر، تل أبيب أيضاً أن تستوعب الدرس. فما أسماه "التهديد الإيراني" لا يتعلق فقط بالتقدم نحو السلاح النووي بل أيضاً له علاقة بعمليات عسكرية هجومية، وهذه المرة لم يقم بها وكيل بل قامت بها إيران مباشرة.
ولهذا، فإن هجوم "أرامكو"، بحسب زيسر، قد نسف المفهوم القائل إن "إيران لن تجرؤ على توجيه ضربة مباشرة"، فهي قامت بها فعلاً فيما يخص "أرامكو"، كما ترى المؤسسة الاستخباراتية الإسرائيلية، لدرجة أن الأخيرة تصف هجوم "أرامكو" بأنه رسالة عسكرية إيرانية مُبطّنة إلى إسرائيل.
أي نعم، هناك مصلحة لبنيامين نتنياهو بتضخيم المخاوف من الخطر الإيراني لدواعٍ داخلية، بغية دفع حزب "كحول لافان" لقبول نتنياهو بحكومة وحدة تحت عنوان حالة الطوارئ والمقتضيات الأمنية الخطيرة بالمنطقة.. إلا أن هناك إجماعاً من المختصين في الدولة العبرية على توصيف الواقع الميداني والأمني بـ"الحساس أكثر من أي وقت مضى".. وهذا تطلَّب من إسرائيل للتحول ولو آنياً واستثنائياً الآن من الهجوم إلى الدفاع أو على الأقل التأهب.
عل كل حال، تعوّل إسرائيل على تنسيق وتعاون مع روسيا لدرء أي خطر داهم من إيران بهذه المرحلة ولمنع هجمات إيرانية محتملة قد تطالها.. فأجرى رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو مكالمة هاتفية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وفي أعقاب هذه المكاملة صرح نتنياهو، قائلاً: "نواجه تحديات كبيرة حولنا ولكننا نتمتع بتعاون وبتنسيق هام مع روسيا وهذا يعتبر حيويا بالنسبة لنا وسنواصل القيام بذلك".
وهذا لا يعني أن الغارات الإسرائيلية توقفت تماماً على سوريا والعراق؛ لأن إسرائيل ستنفذها حينما ترى أن الظرف مناسبة والفرصة مواتية.. ولكن يبدو أن الأجهزة المختصة في تل أبيب تقوم بعملية تقييم لاستراتيجية "بين الحروب"، التي بناء عليها دأبت على تنفيذ غاراتها ضد أهداف إيرانية دون أن يتسبب ذلك باندلاع حرب شاملة حتى اللحظة.. ولكن الساحة باتت حساسة كثيراً.
فهل تتحول إسرائيل إلى استراتيجية جديدة تكون فيها عملياتها أكثر غموضاً؟، خاصة بعدما علت أصوات أمنية تنتقد إعلان نتنياهو عن هذه الغارات في أكثر من مناسبة، وبشكل نسف نهج "الغموض" المُتّبع؛ لأن ذلك يعرض مصالح إسرائيل للخطر.