من الملثّمون الذين يحرقون حقول شمال وشرقي سوريا؟!

القامشلي – إبراهيم إبراهيمي/عباس علي موسى – NPA
 
هل تقاعس الجهات الإدارية والسياسية زاد النار سعيراً؟!
“التفت النار حول الجرّار, وبقي أبي محاصراً بينها, استنجد بالسماء, فأسعفناه إلى دمشق, لكنّه توفي في الطريق”.
بهذه الكلمات وبغصّة يوصف عبد العزيز ضابط الأسعد، من قرية سيخور التابعة لبلدة عامودا غربي القامشلي شمال سوريا, احتراق والده، الذي كان يساعد في إطفاء النار التي أضرمت بحقول القرى المحاذية للطريق الدولي ما بين مدينة الحسكة وبلدة عامودا. 
   
هذا الحريق من بين العديد من الحرائق التي تعرّضت لها مناطق واسعة في شمال وشرقي سوريا، والتي طالت محاصيل القمح والشعير, وهدّدت الأمن الغذائي لسوريا عامة.
وبالرغم من الإعلان الصريح لتنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) بتبنّي حرق المحاصيل لهذا العام في سوريا والعراق, إلا أنّ الأطراف المتصارعة في سوريا وجهت أصابع الاتهام إلى بعضها البعض.
حيث اتهمت كل من الحكومة السورية والتركية, قوات سوريا الديمقراطية, بافتعال الحرائق، كما اتهمت الإدارة الذاتية لشمال وشرقي سوريا أشخاصاً على صلة بالحكومة السورية في التسبّب بإشعالها, إضافة لاتهام حرس الحدود التركية بتسبّب رصاصهم في اندلاعها.
اللحظة الأولى لاشتعال النيران
يقول المواطن حميدي محمد أثناء إخماده الحريق الذي نشب بمحصوله في ريف تربه سبيه/ القحطانية, لـ”نورث برس” التي كانت تغطي الحدث في تلك الأثناء “لقد جاءت النيران من الطريق الدولي”.
المواطن حميدي محمد

وفي إحدى حوادث حرق المحاصيل, يتحدّث أحمد نوري مصطفى, من قرية سيخور بريف عامودا, في تسجيل صوتي لـ”نورث برس” بأنّ أحد القرويين سرد تحت خيمة عزاء عمر ضابط الأسعد, كيف أنّه شاهد لحظة إضرام النيران بالمحاصيل.
أحمد نوري مصطفى, من قرية سيخور بريف عامودا
وأشار إلى أنه في الـ /6/ من حزيران/يونيو في الساعة الواحدة ظهراً, كان واقفا على تلة قرية افكيرا بريف عامودا على الطريق الدولي وشاهد أشخاصاً في سيارة من نوع (H1) “فان أبيض اللون”, يضرمون النيران بالمحاصيل ويلوذون بالفرارغرباً باتجاه بلدة تل تمر التي تبعد عن موقع الحدث /45/ كم.
وبحسب الاستنتاجات فإن السيارة التي يستقلّها مشعلو النيران قد اجتازت الحاجز الواقع على بوابة بلدة تل تمر من جهة الشرق في الساعة الواحدة والنصف تماماً من ذاك اليوم, وهذا ما ينبغي أن يبدو في تسجيل  كاميرات الحاجز, وإذا كان الجاني قد غيّر مسار هروبه فإنّه سيذهب في خيار واحد نحو الجنوب وهو طريق الدرباسية – الحسكة, ويفترض أنّه اجتاز أوّل حاجز على ذاك الطريق في التوقيت ذاته.
وفي نفس التاريخ, في تمام الساعة العاشرة والنصف صباحاً, اشتعلت النيران بأكبر مزرعة زيتون في سري كانيه/رأس العين والمعروفة بمزرعة السفح الواقعة على بعد /15/ كم شرقي المدينة، على الطريق الواصل بين تل تمر وسري كانيه/رأس العين.
وأكد الأهالي يومها من قريتي السفح وخربة البير الواقعتين ما بين بلدة تل تمر ومدينة سري كانيه/رأس العين لـ”نورث برس” أنّهم شاهدوا شخصين مجهولين يقودان دراجة نارية يشعلان النار بالمزروعات قبل أن يلوذا بالفرار.
قال الأهالي بأنّ الشخصين المجهولين توجّها صوب مدينة سري كانيه/رأس العين ومن المرجّح أنّهم دخلا طريقاً فرعياً إلى الجنوب، بعد اجتيازهما نهر الجرجب عبر جسر السفح, ما يعني دخولهما المناطق التي كانت تسيطر عليها تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) سابقاً.
ويقول سلطان الجدعان عضو مجلس قرية الغرّة وسط جبل عبد العزيز, لـ”نورث برس” بأنّه شاهد لحظة إضرام النيران في قرية المستور والخريطة والشلاشية بمنطقة جنوبي نهر الخابور, مشيراً إلى أنه شاهد النيران وهي تشتعل في عدّة أماكن ومن أربع جهات بتوقيت واحد, دون وجود أشخاص في المكان, لتلتهم النيران حينها مساحة /3350/ دونماً من محصول شخص واحد من مالكي أراضي تلك القرى. 
سلطان الجدعان عضو مجلس قرية الغرّة وسط جبل عبد العزيز

تؤكد هذه الشهادات وحوادث الحريق بأنّ مشعلي النار في المحاصيل الزراعية يعتمدون أيضاً على أجهزة الكترونية أو عدسات حارقة, لطالما لم يتواجد أحد في المكان لحظة إشعال النيران، مع بعض الحالات التي يتم فيها الحرق بشكل مباشر.
وتوضّح شهادات الأشخاص الذين شاهدوا لحظة إشعال النيران في المحاصيل, بأنّ أكثرها -ومن بينها الحرائق الكبيرة- تبدأ في مناطق متاخمة للطرق العامة وبخاصة الطريق الدولي أو الفروع المؤدية إليها مباشرة, وهذا ما يُشير إلى أنّ مشعلي النار لا يستطيعون الابتعاد عن الطرق العامة السريعة والتوغّل في الطرق الفرعية, وذلك تحسبا للهروب بسرعة؛ ما يشير إلى أن لدى الجهات الأمنية خلل في مراقبة الطرق العامة خاصة في فترة الحصاد.
وبالإضافة إلى ما سبق فإن المشاهدات التي دوّنت تبين أنّ الجناة بعد لحظة إضرام النار يهربون صوب المناطق الجنوبية وليست الشمالية, وهذا ما يُشير إلى أنّ مشعلي النيران يهربون إلى المناطق التي كانت سابقا تحت سيطرة تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش).
تحقيقات جارية
يطالب المتضرّرون من حرق محاصيلهم بالكشف عن الجناة ومحاكمتهم، ويطالبون الإدارة الذاتية بالخروج عن صمتها وكشف الأيادي التي تقف خلف حرق محاصيلهم.
وبهذا الخصوص التقت “نورث برس” مع الرئيس المشارك لهيئة الداخلية في إقليم الجزيرة كنعان بركات، وطرحت أسئلة حول ما توصلت إليه التحقيقات الأمنية في هذا الإطار، حيث أوضح بركات أنهم ألقوا القبض على بعض الأشخاص وأن التحقيقات لاتزال جارية, مبيناً أن هؤلاء الأشخاص كانوا يتواجدون في المكان لحظة بدء الحريق.
الرئيس المشارك لهيئة الداخلية في إقليم الجزيرة كنعان بركات
وأضاف بركات “سجّل البعض أرقام سياراتهم أثناء مرورهم من المكان. هم ينكرون, لكن بحسب المعلومات التي بحوزتنا فإنّ الحقائق تنجلي رويدا رويدا”.
كما يعزي بركات اندلاع بعض الحرائق إلى أسباب أخرى قائلاً “بعض الآلات الزراعية في بلدة تل حميس تسبّبت بحرائق, كما أنّ الأطفال الذين كانوا يرعون الأغنام بالقرب من بلدة تل براك تسبّبوا في حريق, ورصاصات حرس الحدود التركي تسبّبت في حريق بعين ديوار في مدينة ديريك/المالكية”.
ويرتّب بركات في أسباب الحرائق قائلا “هناك الافتعال في المقام الأول، وتأتي الأسباب الأخرى من الآلات الزراعية وعبث الأطفال بعدها، مشيراً إلى أن المساحات شاسعة جداً ولا يستطيعون تغطيتها أمنياُ, لافتاً إلى أنه بواسطة سيارة أو موتور يستطيع مشعلو الحرائق إشعال الحريق والتواري عن الأنظار”.
وعن عدد الأشخاص الذين تم إلقاء القبض عليهم أفاد الرئيس المشارك لهيئة الداخلية في إقليم الجزيرة أن لديهم ما بين /7-5/مشتبهين على خلفية إشعال الحرائق.
النداءات
لا شك أنّ واجب إطفاء الحرائق يقع على عاتق جميع القوى المدنية والعسكرية في مجتمع تلتهم النيران سلته الغذائية.
لكن في شمال وشرقي سوريا لايزال هناك في المشهد المتفرّجون, فالأحزاب والحركات السياسية الكردية لم تحرّك ساكنا، سوى ببضع كلمات أو بيانات ونداءات متأخرة جداً.
ولمعرفة دور القوى السياسية الكردية ومساهمتها في إخماد الحرائق ميدانياً, وتوجيه المجتمع بنصائح تقلّل من الأضرار أو تخفّف منها, أو العمل لجلب المساعدات الإقليمية أو الدولية توجّهت “نورث برس” بالأسئلة للقوى السياسية الكردية المختلفة.
ففي لقاء مع عبد الكريم محمد القيادي في الحزب الديمقراطي الكردستاني – سوريا, قال “نحن عن طريق مكتبنا الخارجي أوصلنا صوتنا إلى إقليم كردستان العراق, والأمم المتحدة والتحالف الدولي كي يساعدوا الشعب, والأمر بعد ذلك يعود إليهم فيما سيقدمون لهذا المجتمع, لأنّ الأمر يحتاج إلى مجاوزة الحدود, فنحن أوصلنا صوتنا إليهم بأن يساعدوننا قدر ما يستطيعون”.
عبد الكريم محمد القيادي في الحزب الديمقراطي الكردستاني – سوريا
وحول ما إذا أصدروا تعميما مكتوبا لأعضائهم ومناصريهم بمؤازرة الفلاحين أجاب القيادي محمد بالنفي، قائلاً “إنّنا أبلغناهم شفهيا في الاجتماعات”, موضحا أنّهم لم يعملوا على جلب آليات الإطفاء من إقليم كردستان العراق كمحاولة منهم, مضيفاً أنهم ناشدوا كل الجهات لكن الجواب لم يأتِ حتى الآن من أي جهة.
في حين قال شيرو محمد مسؤول اللجنة القانونية لحركة المجتمع الديمقراطي في شمالي سوريا، “نحن في اجتماعاتنا أصدرنا التعليمات الرسمية لكلّ مؤسساتنا بأن يكونوا على قدر المسؤولية في كلّ مكان, في إخماد الحرائق والإبلاغ عن أي تخريب”.
شيرو محمد مسؤول اللجنة القانونية لحركة المجتمع الديمقراطي في شمالي سوريا
وأوضح محمد في حديثه لـ”نورث برس” أنهم أصدروا تعليماتهم على الموقع الرسمي للحركة  مشيراً إلى “أنهم كحركة المجتمع الديمقراطي لم يطلبوا من أحد أن يرسل لهم الإطفائيات”, لأنّ “إدارتنا كانت على جهوزية كبيرة”.
وأصدرت الإدارة الذاتية في الـ/10/ من حزيران/يونيو الجاري بياناً ناشدت فيه كافة شعوب شمال وشرقي سوريا وخاصة في مناطق الجزيرة, للاستنفار والجاهزية ومؤازرة الجهات المعنية للمساعدة في إطفاء الحرائق التي تطال محاصيل القمح والشعير في مناطق الإدارة الذاتية.
من جهته أصدر الحزب التقدمي الديمقراطي الكردي في سوريا بياناً إلى الرأي العام في الـ/11/  من حزيران/يونيو الجاري دعا فيه دول الجوار وخاصة حكومة إقليم كردستان والحكومة الاتحادية في العراق والدولة التركية لتقديم المساعدة في إطفاء الحرائق, كما طالب الحزب الحكومة السورية والإدارة الذاتية إلى التحقيق الدقيق والجدّي في هذه “الجريمة البشعة” حسب البيان.
ودعا الحزب برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة إلى تقديم العون والمساعدة للمزارعين والفلاحين الذين تضرروا من الحرائق.
محاولات القوى السياسية الكردية لم تكن سوى نداءات أكثرها شفهية, وبيانات ومناشدات كتابية متأخرة بعد مضي شهر على إشعال الحرائق, وبقاء نداءاتهم دون إجابات, كما أنّه لم يكن هناك محاولات جدية في طلب الإطفائيات وآليات الإطفاء الأخرى من إقليم كردستان العراق أو من أي جهة أخرى.
من يدمل الجراح؟!
لا شك أنّ الحرائق التي طالت محاصيل هذا العام, والتي أضرّت بمحاصيل أكثر من مئة قرية في شمال وشرقي سوريا, قد خلّفت جرحا عميقاً وضرراً بليغاً طال الغلال والنفوس.
كان عمر ضابط الأسعد هو أحد الأشخاص الذين ضحوا بحياتهم لأجل إنقاذ المحاصيل, كان من حوله الآلاف من الناس الذين هرعوا مثله لإخماد الحريق, حيث يقول ولده عبد العزيز “كان هناك آلاف الأشخاص, كانت النار مستعرة, وصل ارتفاع لفحاته إلى أكثر من ستة أمتار, كان هناك  خمس إطفائيات و//15 صهريج ماء في ذلك المكان”.
كلّ هذا الكم من الناس والآليات لم تستطع إطفاء النيران التي دبّت بجسد عمر ضابط الأسعد, حتى احترق جسده, وفوق هذا كله تقول عائلة الأسعد “مات والدنا مضحّيا ولم يزرنا أحد أيام العزاء, لا الأحزاب السياسية ولا الإدارة الذاتية ولا كلّ من يدّعون أنّهم يمثّلون المجتمع”.
ويبقى السؤال الأهم في حوادث حرق المحاصيل الزراعية لهذا العام, متى يتم الإعلان عن هوية الذين أضرموا النيران في المحاصيل؟ ومن يعوض المتضرّرين؟ ومن يعزّي المضحّين؟  ومن يرمّم الجراح؟.