اقتصاد الظلّ في سوريا بين ضمانة خفية للاقتصاد والكارثة الجديدة

دمشق- NPA
يسمّى بـ”الاقتصاد الخفي أو الأسود”، ويراه البعض أنه شكّل في سنوات الحرب دعامة للأسرة السورية، وكان الضامن والمنقذ من الجوع والعوز، في ظل عدم قدرة السياسات الاقتصادية الرسمية، على تأمين السلع والخدمات، وتحسين مستويات المعيشة.
بذلك يمكن اعتبار اقتصاد الظل هو الاقتصادَ الحقيقي خارج نطاق السجلات الرسمية، ورغم الإيجابيات التي يمكن أن نعزو إليها تأقلم المجتمع السوري مع ظروف الحرب -إذ كان بمثابة اقتصاد “النجاة” أو اقتصاد “التأقلم”- إلا أن هذه الآثار الإيجابية تخفي خلفها آثاراً سلبية، على مستوى الاقتصاد الكلي، تقدّر كخسائرَ بالمليارات.
الاقتصاد الخفي والممنوع والمحرّم
“نورث برس” توجّهت بالسؤال للباحث الاقتصادي محمد كوسا، ليخبرنا عن ماهية وتجليات اقتصاد الظل في سوريا، مجيباً بالقول: “اقتصاد الظلّ هو الاقتصاد الذي يعمل بالتوازي مع الاقتصاد الرسمي، هارباً من القوانين، والإجراءات الإدارية والسياسيات الحكومية، ويمارسه أشخاص عاديون أو اعتباريون، لا يتمُّ تدوين سجلاتهم أو إحصاءاتهم التجارية في البيانات الرسمية، وبالتالي لا تدخل هذه الأموال في حسابات الدخل القومي، لأنها أصلاً لا تخضع للضريبة أو الرسوم المتّبعة”
الباحث الاقتصادي محمد كوسا

وأشار الباحث السوري إلى أنه يُطلَقُ عليه عدة تسميات منها: “الاقتصاد الأسود” أو “اقتصاد ما تحت الأرض” أو “الاقتصاد الخفي”، وذلك لدخوله في عمليات ممنوعة ومحرّمة، مثل الاتجار بالمخدرات أو السلاح أو الأعضاء البشرية.”
وتابع كوسا قوله: “منه ما يأخذ شكل الاتجار بالبضائع والمنتجات التي يدعمها الاقتصاد الرسمي، لكنها تُحتكر من قبل الفاسدين وتُباع في السوق السوداء”، منوهاً إلى أن “هناك تجلٍّ آخر له علاقة بعمالة الأطفال والنساء، وعدم تسجيل بياناتهم في التأمينات الاجتماعية، ما ينعكس سلباً على الاقتصاد الحكومي من جهة، وعلى العمّال أنفسهم غير المشمولين بهذه الحقوق المالية.”
اقتصاد الظل ليس بجديد
وقالت الباحثة والدكتورة رشا سيروب لــ”نورث برس”، إن  “اقتصاد الظل ليس بالظاهرة الجديدة على سوريا، إلا أنه توسع بمستويات متسارعة خلال السنوات الماضية، وأسباب وجوده لم تختلف عما كان سائداً قبل الحرب، التي كانت تنحصر في تحسين الدخل وضمان سبل العيش (بما يخص العاملين)”، لافتة إلى أن “ممارسة قطاع الأعمال في الاقتصاد الخفي، يعود إلى بيئة الأعمال والاستثمار غير المشجّعة على المنافسة، فضلاً عن انتشار الفساد الذي شجّع على إخفاء جزء كبير من حجم الأعمال بغية التهرّب وتجنّب الضرائب.”
الباحثة والدكتورة رشا سيروب

ورأت سيروب أن ” الذي اختلف عن السابق هو تضخم حجمه وتنظيمه، وممارسته جهاراً على مرأى من عيون الأجهزة الحكومية. وظهر ما يمكن أن نطلق عليه (أباطرة اقتصاد الظل)، كما في انتعاش تجارة الأرصفة من بسطات وأكشاك”، مضيفة إلى أن ” الخطير في هذه الحالة أو ما يميز هؤلاء الأباطرة، أنهم منظّمون وقادرون على السيطرة على الاقتصاد، والتحكم بتوافر السلع وأسعارها.”
اقتصاد الظل خارج سجلات الإحصاء
وعن سؤال لـ “نورث برس” حول أرقامٍ إحصائية، تؤشّر بشكل أكبر عن مدى اتساع هذه الظاهرة، أجابت سيروب: “للأسف لا يوجد إحصائيات أو دراسات عن نسبة اقتصاد الظل في سوريا. لكن بالاعتماد على البيانات الرسمية عام 2010 كانت نسبة العاملين في القطاع الخاص غير المنظم تقارب 30 % من حجم المشتغلين”، مؤكدة على أنه ” باعتبار أن هذه النسبة ازدادت بإضافة عدم التصريح بكامل رواتب العاملين، فبتقديرنا أصبحت هذه النسبة تتجاوز 70 %”، ولفتت أيضاً إلى أنه “إذا ما لجأنا إلى مؤشر قياس اقتصاد الظل، وفقاً لحجم الدخل غير المصرّح به، الذي يمثل الفرق بين الدخل والاستهلاك، سنجد أن نسبة الدخل غير المصرح به قد تصل اليوم إلى 88 %.”
الأهم بحسب سيروب هو أنه و”بناءً على ما تقدّم من أرقام فإن حجم الأموال التي تضيع على الخزانة العامة للدولة، أو مقدار الضرائب التي يمكن تحصيلها، في حال تمّت قوننة اقتصاد الظل وإدراجه ضمن الاقتصاد الرسمي، تقدر بالحد الأدنى بـ/500/ مليار ليرة سورية” مرفقة إياها بملاحظة أنه “إذا افترضنا أن وسطي معدل الضريبة 10 % على النشاطات الاقتصادية، علماً أنها وفق قانون ضريبة الدخل الحالي تصل إلى 22 %.”
تجليات اقتصاد الظل على أرض الواقع
ولمعرفة تجليات هذا “الاقتصاد الرمادي” على أرض الواقع التقت “نورث برس” الصناعي محمد الصباغ من محافظة حلب والذي قال: “مرت علينا سبع سنين طاحنة، توقفت فيها أكثر من /70/ إلى /80/ بالمائة من المصانع الحلبية، وتعرض قسم منها للتخريب والتدمير والسرقة وقسم آخر توقف نتيجة هجرة أصحابها أو تهجيرهم من حلب، وأثّر هذا على الصناعة السورية وخاصة في حلب التي تمتلك أكثر من /37/ ألف منشأة صناعية وحرفية مستثمرة وفعّالة.”
الصناعي محمد الصباغ 

وأضاف الصناعي قائلاً: “خلال الحرب تفاجأنا بظهور صناعات متخفيّة بطريقة غريبة، إذ اكتشفنا أن بعض الأشخاص كانوا يعملون في منشآتنا لكنهم ذهبوا إلى ورشات ومصانع غير مرخّصة، أصبحت تنتج مواد ليست ذات جودة، وغير مطابقة للمواصفات القانونية والقياسية السورية” وأشار إلى أن هذه المصانع باتت منافسة للصناعي النظامي المرخّص والمؤمَّن، مع تهرب الورشات هذه من كل القيود والضرائب، سواء لجهة الكهرباء أو الفيول أو التأمينات الاجتماعية للعمال، الذين يعملون لصالحها.”
واسترسل الصبّاغ بالقول: “المفاجأة الكبيرة هي وجود منتجات قادمة مثلاً من تركيا أو من غيرها، يبدّلون بطاقة إدخالها أو ما يسمّى بالـ”Label” الملصقة عليها، ويستبدلونها ببطاقة على أنها من الانتاج السوري، وهذا كلّه مدعوماً من جهات خارجية منها تركيا وبعض أمراء الفساد في الداخل، لضرب الصناعة السورية والحلبية تحديداً.”
أمّا الكارثة – بحسب الصبّاغ- فهي “أن هناك الكثير من العقود التجارية يأخذها أشخاصٌ، هم ليسوا تجّاراً أو صناعيين أصلاً، لكنهم استغلوا الظروف ليبنوا ثرواتهم غير الشرعية، بل هناك البعض ممن يحصل على عقود صناعية تذهب لصالح سجلات تجارية وهمية أو مزوّرة، أو ليس لديها بيانات ضريبية مثل الشركات السورية العريقة المعروفة، التي تمتلك سجلات نظامية لأكثر من ثلاثين وأربعين سنة مضت.”
مطالب ببيانات حقيقية
وفي الوقت الذي يبقى السؤال عن كيفية معالجة النتائج السلبية لهذه الظاهرة المسيطرة، أجاب الصناعي محمد الصبّاغ: “نطالب وزارة الاقتصاد ببيانات حقيقية وأرقام واقعية، لنعرف حجم وعدد المنشآت التي عادت للعمل، وحجم الصادرات، بما يساعدنا في معرف كيفية ضبط المنتجات المصنوعة المرخّصة أو غير المرخصة، وموضوع تداول المواد الأولية، ككل ما يساعدنا في إعادة عجلة الانتاج بالشكل الرسمي والنظامي، بدلاً من ترك حبل الفساد ممدوداً لتجار الظل، ليبنوا ثرواتهم على حساب الصناعيين النظاميين.”
دور الدولة لمواجهة اقتصاد الظل
وبالعودة للباحثة سيروب فقد تحدثت عن إمكانية الحكومة السورية العمل على ثلاث مراحل كالتالي:
المرحلة الأولى: عبر التزامات الحكومة تجاه الاقتصاد الكلي، والتي يمكن من خلالها كسب الثقة بإجراءاتها، وذلك يتطلب تحسين مستويات المعيشية، وتحديث سياسات العمل وتطوير نظم الحماية الاجتماعية، وسياسات مالية عادلة، وضمان حكم القانون وتعزيز القدرة التنافسية بما يسمح إتاحة الأسواق لصغار المنتجين وتفعيل التمويل الصغير وتمويل الأنشطة الإنتاجية، وتحسين بيئة الأعمال والاستثمار.
المرحلة الثانية: مرحلة السماح والقوننة، حيث يتم تسهيل إجراءات تسجيل اقتصاد الظل وتحويله من اقتصاد خفي إلى معلن دون ضرائب ورسوم أو أي التزامات مالية وإدارية.
المرحلة الثالثة: هي دعم قطاع المنشآت المتوسطة والصغيرة والمتناهية الصغر من حيث سياسات التمويل وضمان تطبيق القوانين والأنظمة والتشريعات شأنه شأن أي نشاط اقتصادي.