صناعة البولمانات في حلب.. خبرات محلية تصنع الفرق رغم التحديات

صالح سليم – حلب

تتعالى أصوات آلات اللحام والطلاء داخل ورشةٍ صاخبة في منطقة الراموسة الصناعية بحلب، بينما يقف عبد الرحمن بركات، ذو الخمسين عاماً، منهمكاً في مراقبة فريقه وهو يضع اللمسات الأخيرة على حافلة نقل ركاب (بولمان) جديدة.

منذ أكثر من أربعة عقود، يعمل بركات في هذه المهنة التي ورثها عن والده، غير أن التحديات التي واجهته خلال سنوات الحرب لم تكن سهلة، قائلاً: “غادرت الأيدي الماهرة، لكننا بقينا نصنع ونعدل ونبتكر بموارد أقل وإصرار أكبر”.

خبرة متراكمة رغم الظروف

يقول الصناعي عبد الرحمن بركات (50 عاماً)، الذي يعمل في هذا المجال منذ عام 1980، إن ورشته تمثل مثالاً حياً على التطور المحلي، إذ تبدأ عملية تصنيع الحافلات من تصميم الهيكل المعدني وحتى اللمسات الأخيرة في الطلاء والديكور الداخلي، وفقاً للمواصفات الأوروبية.

ويضيف بركات: “نستورد الشاسيهات (الهياكل) كاملة، ونركب عليها المحركات المناسبة، سواء كانت من نوع فنداي، أو سكانيا، أو مرسيدس، أو مان”.

ويشير إلى أن ورش الراموسة الصناعية تتميز بقدرتها على تصنيع وتحديث نماذج متعددة من الحافلات الكبيرة والصغيرة، بما يتماشى مع تطورات السوق.

ويبين أن تأمين قطع الغيار، ولا سيما التركية منها، كان يمثل عائقاً في السابق، إلا أن الأمور تحسنت بعد سقوط النظام أواخر العام المنصرم، ما أسهم في تعزيز قدرة الورش المحلية على التطوير والتحديث، على حد قوله.

لكن التحدي الأكبر، بحسب بركات، يتمثل في نقص الأيدي العاملة الماهرة، بعد أن غادر كثير من الحرفيين إلى أوروبا وتركيا خلال سنوات الحرب، مشيراً إلى أن “عودة الكفاءات أو توفير البدائل محلياً هو الدعم الأهم الذي يمكن تقديمه للصناعة الوطنية”.

ورغم التحديات، يرى بركات أن الوضع الحالي أفضل من السابق، وتبذل الورش جهوداً كبيرة للحفاظ على جودة الإنتاج وتلبية احتياجات السوق.

تكاليف أقل وجودة منافسة

ليست ورشة بركات الوحيدة، فالراموسة اليوم تعج بحرفيين ومهندسين يكافحون للحفاظ على نبض الصناعة في مدينة عُرفت يوماً بأنها “عاصمة الاقتصاد السوري”.

من جهته، يشير أيمن حياني (50 عاماً)، صاحب شركة نقل وسياحة في حلب، إلى أهمية الصناعة المحلية في دعم قطاع النقل، رغم استيراد شركته لحافلات حديثة من الصين.

ويقول “حياني”: “نؤمن بأن الخبرات السورية قادرة على تجهيز الحافلات بأعلى جودة، والتجهيزات المحلية لا تقل عن مثيلاتها المستوردة”.

وبين نقص في اليد العاملة وارتفاع تكاليف الشحن، تقف صناعة الحافلات في حلب شاهداً على قدرة السوريين على تحويل الركام إلى إنجاز، والإمكانيات المتواضعة إلى منتجات تُضاهي المستورد.

ويشير “حياني” إلى أن الحافلات الصينية المستوردة “غالباً ما تحتاج إلى تعديلات إضافية لتناسب السوق السورية، وهو ما توفره الورش المحلية بكفاءة وبتكاليف معقولة”، على حد وصفه.

ويقول إن الحافلات المستوردة موديل 2023، “تتطلب تعديلات وتجهيزات إضافية لتلبية متطلبات السوق المحلي واحتياجات عملائنا وهنا يبرز دور الصناعة السورية حيث نستطيع بتكلفة معقولة جداً إجراء التعديلات اللازمة وإضافة اللمسات التي تميز منتجاتنا”.

ويضيف: “بإمكاننا تصنيع نسخة مطابقة لحافلة مستوردة بكلفة تتراوح بين 70 و80 ألف دولار، في حين أن المستوردة تكلف 140 إلى 150 ألف دولار”.

ويشير إلى أن ارتفاع تكاليف الشحن يمثل عاملاً إضافياً لصالح التصنيع المحلي، إذ تبلغ كلفة شحن الحافلة الواحدة من الصين إلى سوريا حوالي 25 ألف دولار، وهو ما يعادل نصف تكلفة تصنيع حافلة كاملة داخل سوريا.

بيئة حاضنة ودعم

يقول الصناعي محمد بركات (42 عاماً) من منطقة الراموسة، إن عمليات تصنيع الباصات تبدأ بتجهيز الهيكل الحديدي، مروراً بمرحلة تثبيت صفائح المعدن، ثم الإكساء، فالطلاء.

ويضيف: “ننتقل بعدها إلى فرش الديكور الداخلي، وتركيب الزجاج، والتشطيبات النهائية، لتخرج الحافلة جاهزة تماماً للنقل بين المحافظات”.

ويشير بركات إلى أن حلب ما تزال تحتفظ بكفاءات صناعية عالية، وأن تطوير هذا القطاع يتطلب فقط بيئة حاضنة ودعماً مستمراً للكوادر والورش العاملة.

ويرى صناعيون في حلب، أنه رغم المصاعب التي تواجه قطاع الصناعة في حلب، من نقص الأيدي العاملة إلى تقلبات السوق وتكاليف الشحن، فإن ما يحدث داخل ورش الراموسة ليس مجرد نشاط اقتصادي، بل هو شكل من أشكال البقاء الذي تصنعه العزيمة والخبرة في مدينة أرهقتها الحرب.

ورغم غياب الدعم المطلوب، فيما لا تزال بعض الأيدي تصرّ على الإمساك بالأمل، تلحم الحديد وتثبت الزجاج وتصقل الطلاء، لتُعيد للحافلات وللصناعة السورية قدرتها على المضي، ولو ببطء، في طريق التعافي.

تحرير: خلف معو