نورمان العباس – دمشق
في خضم الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها سوريا، يتصاعد القلق من تبعات فصل المئات من الموظفين من القطاع العام بعد سقوط النظام السابق، ليس فقط لفقدانهم مصدر دخلهم الوحيد، بل أيضاً لما ترتب على ذلك من عجز عن سداد القروض المترتبة عليهم، مما يضعهم أمام ملاحقات قانونية تزيد من تعقيد ظروفهم المعيشية.
ومنذ نهاية شهر كانون الأول/ ديسمبر الماضي، أصدرت الحكومة المؤقتة في سوريا، عدة قرارات تقضي بفصل آلاف الموظفين من عملهم، بمختلف القطاعات الحكومية.
قرار مجحف وغياب البدائل
يرى المحامي بسام الشيخة أن فصل الموظفين دون تأمين بدائل يعكس تعسفاً واضحاً في القرار، متسائلاً: “ما ذنب موظف قضى 25 عاماً في الخدمة أن يحرم من مصدر رزقه ويطالب في الوقت ذاته بسداد قرض التزم به على أساس راتبه؟”.
ويشير المحامي إلى أن هذا الإجراء يتنافى مع مبدأ العدالة، مطالباً بعودة من لم يثبت تورطهم في الدم السوري إلى وظائفهم، ما يتيح لهم سداد التزاماتهم ضمن إطار قانوني منتظم.
من جانبه، يقول إسماعيل ديوب من سكان دمشق، إن القرار لا يراعي الواقع الاقتصادي، موضحاً أن فرص العمل شبه معدومة، وأن أغلب الموظفين لا يملكون مؤهلات تؤهلهم للاندماج في القطاع الخاص أو مشاريع استثمارية ما تزال محدودة.
ويتساءل: “كيف يُنتظر من موظف بلا دخل أن يسدد قرضاً بنكيّاً؟”، مشدداً على ضرورة إعادة النظر في القرار ومنح مهلة حتى تتحسن الأوضاع، أو توفير دخل بديل للمفصولين.
ويطرح هذا الواقع تساؤلات ملحة حول مدى عدالة القرار ومدى مسؤولية الحكومة في توفير بدائل إنسانية وعملية للمتضررين.
أبعاد إنسانية غائبة
فيما اعتبرت الطبيبة دلما خزون، من سكان دمشق، أن القرار مجحف في ظل الأوضاع الاقتصادية السيئة خاصة أن البلد إلى الآن لم ينهض اقتصادياً، مشيرة إلى أن الحكومة تفاقم الأزمة الاقتصادية على نفسها.
وترى “خزون” أنه عندما منعت الحكومة عن الموظف حقه لا يجب أن تطالبه في الواجبات كالقروض والالتزامات المالية.
وتساءلت عن العدالة في فتح الأبواب أمام الفاسدين وأصحاب النفوذ، بينما يُضيّق الخناق على شريحة الموظفين البسطاء.
وتقول إن “الدولة أعطت فرصة لكثير من التجار ورجال الأعمال الفاسدين”، مبينة أن “الموظف المرتشي أو الفاسد أصبح هكذا لأن راتبه لا يكفيه”.
في حين يقول جعفر خضور، من سكان دمشق، إن الحجز على أملاك الموظفين المفصولين “إجراء غير عادل، خاصة وأن كثيرين منهم لا يملكون ممتلكات أصلاً”.
ويضيف أن “الجهة المصدرة للقرار لم توضح مبرراتها، وهو ما يمثل نقطة ضعف في عملية صنع القرار”، داعياً إلى إيجاد حلول اقتصادية عادلة بتوفير فرص عمل والبحث عن موارد حقيقية قبل تطبيق إجراءات قسرية.
غياب السياسة الاقتصادية المتكاملة
يرى الدكتور تيسير المصري، أستاذ الاقتصاد في جامعة دمشق، أن وزارة المالية تجاهلت البعد الاجتماعي في قرارها المتعلق بمطالبة الموظفين المفصولين بسداد القروض، متسائلاً: “من الجهة المسؤولة عن تقييم الأثر الاجتماعي في مثل هذه القرارات؟”
ويشير إلى أن غياب مؤسسة مركزية تعنى برسم السياسات الاقتصادية والاجتماعية على مستوى الدولة، ساهم في صدور قرارات غير متكاملة.
ويقول “المصري”: “لو وجدت جهة مختصة تدرس الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية للقرارات الحكومية، لكان هناك تأنٍّ وتنسيق أفضل”: مضيفاً: “للأسف، ما نشهده هو أن كل وزير يتخذ قراره بشكل منفرد، مما يؤدي إلى تناقض السياسات وإلحاق الظلم بالمواطنين.”
ويشدد أن من حق الدولة استرداد أموالها، ولكن في المقابل يجب أن تراعي الظروف الإنسانية للموظفين المفصولين، قائلاً: “كيف نُطالب موظفاً فُصل من عمله، وفقد مصدر دخله الوحيد، بأن يلتزم بسداد قرض استند أساساً إلى راتبه الشهري؟”
ويبين أن الجهة المُصدرة للقرار لم تأخذ بعين الاعتبار التبعات الاجتماعية والاقتصادية للفصل، داعياً إلى ضرورة التريث في التنفيذ حتى تتحسن الظروف الاقتصادية، موضحاً أن تأخير السداد يترتب عليه فوائد إضافية تفاقم عبء الديون على الموظفين.
ويوضح “المصري” أن القروض مُنحت أصلاً بضمان الراتب الشهري، ومع توقف هذا الدخل بسبب الفصل، فإن تحميل المسؤولية كاملة للموظف هو أمر غير منصف، داعياً وزارة المالية إلى إعادة النظر في نهجها والتنسيق مع الجهات المعنية بالشأن الاجتماعي.
ويرى أن الحل لا يمكن أن يأتي من جهة واحدة، بل من مقاربة شاملة تتوزع مسؤوليتها بين البنوك، والوزارات، والحكومة ككل، مشدداً بأن الحكومة مسؤولة عن مواطنيها، ومطلوب منها أن تتعامل مع الواقع الاقتصادي المتردي بروح المسؤولية والإنصاف، لا عبر إجراءات تزيد من معاناة الناس.”
وفي ظل الأوضاع الاقتصادية الراهنة، تبدو قرارات فصل الموظفين وملاحقتهم بالقروض دون دراسة شاملة لتداعياتها الاجتماعية والإنسانية، مؤشراً على خلل في منهجية صنع القرار، وفق مراقبين، وبينما تسعى الدولة لاسترجاع مستحقاتها المالية، يغيب عن المشهد واقع آلاف الأسر التي فقدت مصدر رزقها وتواجه تهديدات قانونية تفوق قدرتها على الاحتمال.