بين الألغام ولقمة العيش.. الموت يترصد جامعي الكمأة في بادية دير الزور
علي البكيع – دير الزور
في بادية كباجب، بريف دير الزور شرقي سوريا، يخرج بعض السكان يوميًا بحثًا عن الكمأة، لكن رحلتهم محفوفة بالمخاطر، حيث تنتشر الألغام الأرضية في كل مكان، ما يجعل كل خطوة قد تكون الأخيرة.
ورغم ذلك، لا يثنيهم الخوف عن مواصلة البحث عما يعتبرونه “ذهب الصحراء”، إذ يُعدّ مصدر رزقهم الوحيد في ظل الظروف المعيشية الصعبة.
ضحايا ألغام وخلايا “داعش”
يقول سالم الديري، من سكان قرية كباجب، لنورث برس، إن “الأهالي يخرجون للبحث عن الكمأة، ويجدون كيلو أو أقل من ذلك، لكن كل يوم يسقط ضحايا بسبب الألغام”.
ويضيف أن “بعضها مدفون تحت الأرض، لا نراها إلا عندما يدوسها أحدهم فتنفجر به، مشيراً إلى أن المنطقة والقرية محاصرتان بالألغام من كل الاتجاهات، ومع ذلك، يستمر الناس في البحث عن رزقهم، رغم أنهم يدركون المخاطر التي تواجههم.
ويطالب “سالم” فرق الهندسة المختصة بتفكيك الألغام، مشيراً إلى “مقتل عدد كبير من الناس بالألغام خاصة الاطفال والنساء”.
وأواخر كانون الثاني/ يناير من العام الجاري، قتل ثلاثة مدنيين وأصيب اثنان آخران بانفجار لغم أرضي من مخلفات الحرب، بسيارة في بادية دير الزور الجنوبية بالقرب من قرية كباجب.
ووثقت فرق الدفاع المدني السوري ” الخوذ البيضاء” من تاريخ 27 تشرين الثاني 2024 حتى يوم الأربعاء 22 كانون الثاني 2025، مقتل 43 مدنياً بينهم 8 أطفال وامرأة، وإصابة 72 مدنياً بينهم 29 طفلاً بجروح منها بليغة، في انفجار لمخلفات الحرب والألغام في المناطق السورية.
وتُعدّ منطقة البادية السورية المصدر الرئيس لثمرة “الكمأة” التي يبدأ موسم جمعها مع بداية فصل الربيع، حيث يقوم مختصّون بالبحث عن مواطن الثمرة التي تباع بأسعار باهظة، غير أن رحلة البحث عن الكمأة أصبحت منذ سنوات محفوفة بالمخاطر.
الخطر الأساسي الذي يواجه الباحثين عن الكمأة يتمثل بالإضافة لانفجار الألغام، بتنظيم الدولة الإسلامية “داعش” المنتشرة خلاياه بمناطق شاسعة في باديتي الرقة ودير الزور.
وفي 6 آذار/ مارس 2024، قُتل 18 شخصاً بين مدنيين وعسكريين في هجوم نسبه المرصد السوري لحقوق الإنسان لتنظيم “داعش” في بادية “كباجب” بريف دير الزور الجنوبي، خلال رحلة لجمع الكمأة.

الفقر يجبرهم على المخاطرة
يروي ماهر الحمد، أحد الباحثين عن الكمأة، تفاصيل رحلته اليومية في بادية كباجب، لنورث برس، ويقول: “نأتي إلى هنا الساعة الخامسة صباحًا، ونبدأ بجمع الكمأة في بعض الأيام نجد نصف كيلو أو كيلوغرامًا واحدًا فقط، وأحيانًا لا نوفق بشيء”.
ويضيف: “ما نجمعه بالكاد يكفي أجرة السيارة التي تقلّنا إلى هنا، نعرف أن المخاطر كبيرة، فالألغام منتشرة بجانب الدشم العسكرية القديمة، ولا نستطيع الاقتراب منها”.
ويشير إلى أن دخله اليومي من جمع الكمأ يتراوح بين 100 ألف إلى 150 ألف ليرة سورية، وأحيانًا لا يكفي حتى أجرة النقل، ما يجعله يعود إلى المنزل بخفي حنين، على حد وصفه.
ويقول: “أعود إلى المنزل الساعة الثالثة بعد العصر، وما جمعته لا يكفي مصروفي اليومي. لا يوجد عمل آخر، لذلك نضطر إلى المخاطرة بحياتنا”.
فيما يبين أنهم تمكنوا من العثور على ما يقارب 500 لغم فردي، قاموا بإخراجها وإحراقها، لكنها لا تزال منتشرة في أماكن أخرى.
وفي تشرين الثاني/ نوفمبر العام الفائت، انفجر لغم أرضي بسيارة يستقلها الشقيقان علاء الجمال (30 عاماً) وعلي الجمال (32عاماً) في بادية كباجب على طريق دير الزور – دمشق أثناء توجههما إلى أرضهما ما أدى لمقتلهما.
إنتاج ضعيف لشح الأمطار
يقول ناصر الهمدوش، أحد تجار الكمأة في بادية كباجب، لنورث برس، إن الإنتاج هذا العام ضعيف جدًا مقارنة بالسنوات الماضية، ما أدى إلى ارتفاع الأسعار بشكل كبير.
ويضيف: “الكمأة هذا العام قليل جدًا، خلافًا للسنوات الماضية، لذلك ارتفعت أسعارها، حيث تتراوح بين 200 ألف إلى 300 ألف ليرة سورية للكيلوغرام، حسب النوع”.
وهناك نوعان رئيسيان للكمأة، بحسب التاجر، “الزبيدي، وهو الأغلى سعرًا، حيث يصل سعر الكيلو منه إلى 250 ألف ليرة، والأحمر، وهو الأرخص, يتم فرز الكمأ الأبيض وإرساله إلى أسواق الخليج، بينما يباع الأحمر في الأسواق المحلية”.
ويشير “ناصر” إلى أن منطقتي هريبشة وتل كباجب تُعدّان من أهم المناطق التي يُجمع فيها الكمأة، حيث تتجمع الحواشة عند المغرب، ويتم بيع الكمأة بالمزاد.
ويبين أن الكميات المتاحة هذا العام أقل بكثير من السنوات السابقة، قائلاً: “هذا العام، يجمع الأهالي يوميًا حوالي طن ونصف إلى طنين من الكمأة، بينما في الأعوام الماضية كان الإنتاج يصل إلى 40 أو حتى 60 طنًا يوميًا”.
ويعتمد موسم الكمأة بشكل أساسي على كمية الأمطار، بحسب “الهمدوش”، مضيفاً: “أن قلة الأمطار هذا العام أثرت بشكل كبير على الإنتاج، حيث انحصرت الكمأة في مناطق محددة، مثل هريبشة، التي تمتد على طول 10 كيلومترات وعرض 15 كيلومترًا”.
ويشير إلى أنه إذا هطلت الأمطار خلال الأسبوع القادم، فقد يزداد إنتاج الكمأة، لكن إذا لم تهطل الأمطار، فسينتهي الموسم بسرعة”.
وبينما ينتظر التجار الأمطار لإنعاش الموسم، ينتظر الأهالي حلاً ينقذهم من شبح الموت، حتى يتمكنوا من البحث عن رزقهم دون أن يكونوا ضحايا للألغام.
وفي ظل غياب أي حلول حقيقية لمشكلة الألغام، تستمر معاناة الباحثين عن الكمأة، الذين يخرجون يوميًا رغم علمهم بأن الموت قد يكون بانتظارهم تحت الرمال في بادية كباجب بريف دير الزور.