أن تعيش مع رصاصة.. 21 عاماً على الانتفاضة الكردية
عباس علي موسى – نورث برس
منذ 21 عاماً وكلّما يطلّ شهر آذار، يرجع الزمن بـ “محمد حمزة” إلى ذلك اليوم الذي غيّر مجرى حياته كلّياً وإلى الأبد.
يتذكّر محمد صبيحة ذلك اليوم، حين شارك في مظاهرة غاضبة وحاشدة في مدينة القامشلي، وكان يصرخ ويهتف بأعلى صوته بخليط من المطالب والحقوق والحنق والغضب، لكنّه لم يكن يعلم أنّ هناك من يتحيّن لإطلاق الرصاص.
يُكرّر محمد مشاهدة الفيديو الذي يوثّق جرحى ذلك اليوم في مشفى الرحمة بمدينة القامشلي، فيديو من حوالي خمس دقائق، يظهر فيها محمد فاقداً للوعي يهذي متوجّعا في الدقيقة 3:15.
يقول محمد إنه وفي كل آذار يعيد مشاهدة الفيديو مراراً بأسى وألم.
رصاصة في الرأس
كان ذلك في الثالث عشر من آذار 2004 وكان صوته الأجشّ بفعل الانتقال ما بين مرحلة اليفاعة لمرحلة الشباب والرجولة يهدر مع المتظاهرين الغاضبين بالهتافات. “كنتُ ضمن المظاهرة قرب دوار الصوامع. فجأة ظهر زيل عسكري، نزلت من عساكر الهجانة، وبدأوا بإطلاق الرصاص الحي بشكل عشوائي، شعرتُ برأسي، ظننتُ أنّها حصى أو حجرة، لكن حين مددت يدي كان النزيف حاداً، وخارت قواي وسقطت أرضاً”.
لم يستفق محمد من غيبوبته إلا بعد 45 يوماً في مشفى الرحمة بمدينة القامشلي، حيث كان من عدة أشخاص آخرين تم إسعافهم إلى المشفى، فيما فضّل عشرات الأشخاص المصابين الآخرين أن يتداووا في المنازل بعيداً عن أعين الشرطة والاستخبارات، وقال والد محمد إنّه ومعظم فترة الغيبوبة كانت يده مقيّدة إلى السرير، حيث كان آخر شخص خرج من المشفى، وفي معظم الوقت كان هناك عنصراً شرطة في غرفته.
لم يستطع محمّد تحريك أطرافه وخاصة اليمنى بعد خروجه من المشفى، حيث أخبره الأطباء أنّ الرصاصة التي أصابته من القفى لا يُمكن إخراجها، وهنا خضع لعلاج فيزيائي لستة أشهر متواصلة، استطاع بفضلها تحريك أطرافه اليُمنى لكن ليس بشكل جيد.
لكن كلّ ذلك لم يشفع لمحمّد حيث طالبت الشرطة والده بأن يُرسله إلى الخدمة الإلزامية مع وضعه الصحي المتدهور، ولم يقبلوا الحيلولة دون أن يستخرج ورقة تفيد بوضعه الصحي الخاص وتسريحه من الخدمة.
يذكر محمد تلك الفترة بمرارة، حيث أنّهم لم يمنحوه التسريح المرضي إلا بعد أن تنقّل ما بين دير الزور والحسكة وأخيراً دمشق، حتى حصل على الورقة.
وأدرك والده حينها أنّ ابنه يُعاقب لأنّه من مُصابي “الانتفاضة”، وقد وضع اسم ابنه على اللائحة الحمراء، أو كما يُقال بالعامية “تحت اسمو خط أحمر” ليُحرم فعلياً من حقّ التوظيف وهذا ما دفعه لترك مقاعد الدراسة سريعاً.

شرارة الغضب
كانت المظاهرة التي شارك فيها محمد وأصيب فيها إلى جانب العشرات الآخرين واستشهاد أكثر من 30 مدنياً جزءاً من موجة غضب عارمة، ومظاهرات في مدينة القامشلي بداية قبل أن تنتقل بسرعة إلى مختلف المدن الأخرى في الجزيرة السورية وعفرين وكوباني وحلب ودمشق، عُرفت لاحقاً باسم “انتفاضة قامشلو”.
بدأ الأمر في يوم الجمعة المصادف لتاريخ 12 آذار 2004 في يوم مباراة تجمع فريق “الجهاد” في القامشلي والذي كان يستضيف فريق “الفتوة” القادم من دير الزور ضمن مباريات الدوري السوري، وكان أن بدأت صدامات مباشرة بالحجارة والأسلحة البيضاء بين جماهير فريق الجهاد وهم في غالبيتهم من الكُرد وجماهير نادي الفتوة من العرب الذين تحرّشوا بجمهور “الجهاد”، وتدخّلت الشرطة والأجهزة الأمنية لكن بنية تأديب الجماهير الكردية، حيث فتحت النار عليهم، وقُتل حينها ما لا يقلّ عن ستة أشخاص، تحوّلت مراسيم الدفن لهم لمظاهرات غاضبة، لم تقتصر على مدينة القامشلي فحسب، بل عمّت مختلف المدن والبلدات في الجزيرة وكوباني وعفرين والأحياء الكردية في حلب ودمشق.
ومع أنّ أحد الأسباب المباشرة يعود بحسب كتّاب وسياسيين للأحداث المتلاحقة لدى الجارة العراقية وما أفضت إليه العملية العسكرية الأميركية بقيادة بوش الابن من إسقاط نظام البعث، وما تلاها من تنامي مشاعر النقمة على الكرد هناك وأنّهم السبب في سقوط أحد العواصم العربية التي يجمعها عمق اجتماعي وعشائري مع محافظة دير الزور الحدودية.
وعلى المستوى الوطني العام وعلى الرغم من محاولات النظام السوري من شيطنة هذه الانتفاضة وتقزيمها وتسميتها بأعمال الشغب، إلا أنّ النُخب السورية المعارضة اعتبرتها أحد النقاط المضيئة المعبرة عن رغبة المجتمعات السورية في التخلّص من الاستبداد، وهو ما يتم تريده في مناسبات مختلفة، ومع سقوط نظام بشار الأسد في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024 وإسقاط تماثيله تردّد بشكل مكثّف ذكرى إسقاط أول تمثال للأسد الأب في مدينة عامودا في سياق الانتفاضة، التي ساهم فيها شباب يافعون ورجال ونخبة وعبروا عن غضبهم حينها، ودفعوا ثمنها غالياً، آلاف المعتقلين وعشرات الجرحى والقتلى.
في بلاد الغربة
في العام 2012 وجد محمد نفسه في النرويج لاجئاً مثل آلاف السوريين، لكن محمد كانت له غاية إضافية للجوء وهي البحث عن علاجٍ لمرضه المزمن، تلك الرصاصة التي لم تفارقه، إلا أن الأطباء أخبروه هناك أنّ قدره سيكون العيش مع هذه الرصاصة.
يقول محمّد “أراجع الطبيب كلّ فترة، وصارت أموري الصحية أفضل”، حيث أنّه لم تعد تنتابه نوبات تشنّج وتصلّب بالأطراف والتي كانت تلمّ به في السنوات السابقة، كما طمأنه الأطباء أنّه سيكون أفضل مع التقدّم في العمر.
وفي النرويج حيث الجو البارد الذي يستمرّ لأشهر، حصل محمّد على الجنسية في العام 2020 ولصدفة الأقدار فقد حصل على الجنسية في يوم 12 آذار، في ذكرى أعادته لإصابته أول مرة في المظاهرة، حيث لم يكتفِ دركُ الحدود بتخويف المتظاهرين بل رشقهم بالرصاص الحي.
حدّثني محمّد عن “النرويج الكئيبة والباردة” وحين سألته عن ابنته الوحيدة التي تبلغ الآن سبع سنوات، قال أنّه أسماها “ليا” اقتبس الاسم من شخصيات المسلسل الشهير عن قصة يوسف النبي، وحين السؤال ما إن كان قد أخبرها عن قصته بطريقة ما، قال إنّها حين تكبر ربّما سيُخبرها يوماً.
لا يحبّذ محمد الحديث عن قصته لأحد، لأنّها تصيبه بالحزن، وعن شريط الذكريات يمرّ الفيديو ثقيلاً حيث أنّ حصته البالغة 23 ثانية كافية لتذكّره بحياة مسكونة بالرصاصة، وهي التي كادت تودي بحياته إلى جانب 36 ضحية أخرى في تلك الانتفاضة التي يذكرها السوريون كأحد أوجه الحراك الشعبي السلمي في مواجهة الرصاص.