أوجلان والعتبة الحرجة: مسار جديد لحل الصراع الكردي – التركي (1)

تتطرق هذه المقالة إلى تقييم شامل لنداء “السلام والمجتمع الديمقراطي” الذي أطلقه أوجلان، من خلال جزئين: الأول يعرض السياق السياسي المحيط بهذه الدعوة. أما الثاني، فيتناول مضمون الدعوة بشكل تفصيلي، من خلال تحليل مبادئها وأهدافها والتأثيرات المحتملة لها.

على مدار عقود، توالت محاولات إنهاء الصراع الكردي – التركي، لكنها غالباً ما اصطدمت بحسابات القوى التي تزدهر في ظلال الحرب والإقصاء. وفي هذا السياق، نقل سري ثريا أوندر، عضو “وفد إيمرالي” والمقرب من أوجلان، تصريحاً منسوباً للأخير جاء فيه: “لا ينبغي أن نفشل هذه المرة“، في إشارة إلى ضرورة تجاوز إخفاقات مبادرات السلام المتعثّرة منذ عام 1993.

جاء ذلك، عقب تصريحات زعيم حزب الحركة القومية، دولت باهجلي، في أكتوبر الماضي، والتي دعت أوجلان إلى لعب دوره، ليعقبها نداء الأخير في 27 فبراير الحالي، في خطوة وصفها محللون بأنها “تجاوز للعتبة الحرجة” في مسار المفاوضات، واعتبرها الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، بصيص أمل في مشهد الشرق الأوسط المتأزم. كما أعرب ممثلون من الولايات المتحدة وألمانيا والصين والمملكة المتحدة والهيئات الدولية مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي عن دعمهم لدعوة أوجلان لحل سلمي.

في الحقيقة، أحدثت أحداث 7 أكتوبر تحولات جذرية في المنطقة، حيث تسببت انهيارات النفوذ الإيراني، خاصة مع سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، بخلق فراغ أمني كبير. بعض المراقبين يشبهون هذه الحقبة بتلك التي تلت انهيار الإمبراطورية العثمانية عام 1918، بكل ما تحمل من مخاطر وفرص.

وإذا كانت تصريحات أوزغور أوزال، رئيس حزب الشعب الجمهوري، صحيحة، والذي أشار إلى وجود محادثات بين أوجلان وأعضاء من الدولة بتوجيه من أردوغان منذ عام مضى، فإن أوجلان قد يسعى لاستعادة روح اتفاقية آماسيا لعام 1919، مؤسساً ذلك على أسس من الأخوة والوطن المشترك، في محاولة لتصحيح التاريخ الذي اعتبره انقلاباً تآمرياً بعد اتفاقية لوزان. وكانت هذه المرحلة نقطة مفصلية تناولها أوجلان في العديد من مؤلفاته التي كتبها في إيمرالي.

لقد خلق الانقلاب على التحالف الطوعي بين الكرد والترك معضلة تاريخية في بنية الجمهورية التركية، إذ عزز من موقف أوليغارشية الدولة بكل أطيافها، من يسارية ويمينية وليبرالية، التي تصرّ على إنكار حقيقة الكرد وتقديس القومية التركية. هذه السياسة، التي تتراوح بين العنف والترويع أو الصهر والتذويب، تمثل ما سماه أوجلان بـ” القانون الفولاذي” الذي يوجه ديناميكيات الدولة التركية.

وفي ظل هذا الواقع، إذ كانت هناك فرصة لسلام حقيقي يكسر هذا الحاجز، فإن أوجلان، الذي حول سجنه في إيمرالي إلى فضاءٍ للبحث التاريخي والاجتماعي والفلسفي، يسعى لإقناع الدولة التركية بضرورة معالجة الجرح العميق الذي أصاب جسد الجمهورية على مدار قرن. فلا يمكن تصور قرن تركي جديد دون إدراج المصالحة التاريخية على أسس من المساواة والديمقراطية، ومن هنا وُصف نداء أوجلان الأخير بـ “نداء العصر“.

أبعاد النداء

عقب إصدار النداء في أجواءٍ مشحونة بالكراهية وغياب الثقة، وفي ظل لغة الترويع واستمرار الحرب مؤخراً بين الكرد والترك، وهي الحرب التي دامت سنواتٍ منذ انهيار عملية السلام الأخيرة، فقد حمل النداء بُعداً وجدانياً عميقاً لدى مناصريّ أوجلان الذين حُرموا من لقائه لسنوات طويلة بسبب العزلة المفروضة عليه منذ عام 2015. تكمن المشهدية الأوجلانية في أن “حضور أوجلان يعني حضور القضية الكردية“، بما يتضمنه ذلك من الوجود والحرية والسلام والشغف. وقد تجلى هذا الأمر بوضوح عندما كشف سري ثريا أوندر، في مقابلة له على قناة “خبر ترك”، تفاصيل حوار دار بينه وبين دولت باهجلي، قائلاً: “قلت له: لنرَ السلام أولًا، ثم ليأخذ الله أمانته”. فردّ باهجلي قائلاً: “كيف تقول ذلك؟ ما يزال أمامنا وقت لنرقص رقصة السلام، لا تفكر بهذه الطريقة”.

ومع ذلك، ظهرت بعض الأصوات النشاز التي حاولت اختزال النداء في فكرة إنهاء النزاع المسلح مع حزب العمال الكردستاني، وتحقيق “تركيا خالية من الإرهاب”، مع دعوات لتضمين وحدات حماية الشعب وقوات سوريا الديمقراطية في نداء التخلي عن السلاح، كما طرحها مقربو أردوغان مثل عمر جليك ومحمد أتشوم. هذه الأصوات تجاهلت، عمداً أو جهلاً، قضايا الحريات والسياق الديمقراطي الذي ينتمي إليه نداء أوجلان.

ونظراً لوضوح النص، لا مجال لتحريفه وإخراجه عن سياقه المقصود. فقد أكد أوجلان بشكل قاطع أنّ نشوء حزب العمال الكردستاني كان نتيجة لسياسات الإنكار المتبعة، مشيراً إلى الطابع الأحادي للجمهورية الذي أدى إلى إنكار الواقع الكردي وفرض قيود على الحريات، وخاصة حرية التعبير. وهذا يتطلب إزالة جميع القيود المفروضة على الواقع الكردي.

وفقاً لذلك، أفادت بعض المصادر بأن أوجلان أبلغ سري ثريا أوندر بضرورة نقل ملاحظة عقب قراءة البيان، مفادها أنّ “التخلي عن السلاح وحل حزب العمال الكردستاني مشروط بالاعتراف بالسياسة الديمقراطية والبعد القانوني“.

بدوره، رأى أوندر أن هذا الطرح ليس شرطاً مسبقاً، بل يمثل إحدى ضرورات مرحلة السلام، بما في ذلك الجهود المبذولة الحالية لتشكيل لجنة برلمانية تُعنى بمتابعة البعد القانوني للعملية. استناداً إلى ذلك، استجاب حزب العمال الكردستاني لنداء أوجلان، مطالباً بتوفير بيئة آمنة لعقد المؤتمر وفتح قنوات تواصل مباشرة معه، ما جعل المسؤولية تقع على عاتق الدولة والحكومة. حيث أشار أوندر إلى أن ما يقارب 50% من مسار عملية السلام قد تم إنجازه.

سياق العملية السلمية

يتضح أن إطلاق عملية السلام في تركيا، رغم الأجواء المشحونة، يسوده تفاؤل حذر، إذ قد تواجه العملية منعطفات حادة وعراقيل كثيرة، داخلياً وخارجياً. خاصةً أن منظمة فتح الله غولن حاولت سابقاً تعطيل العملية، وربما تقوم بعض الأجنحة داخل الدولة، التي تمثل امتداداً لمصالح دولية وإقليمية، بتكرار نفس الاستفزازات. لهذا السبب، اتسمت المحادثات بقدر من السرية وأجريت خلف الأبواب المغلقة لتفادي أي استفزازات محتملة.

في المقابل، شدد أوجلان على ضرورة توسيع نطاق المشاركة ليشمل معظم الأحزاب السياسية الرئيسية في البرلمان، بالإضافة إلى الأطراف الكردية الفاعلة في المنطقة، بهدف إضفاء زخم سياسي على العملية. وقد أسهمت المواقف الإيجابية التي عبّر عنها كل من أردوغان وباهجلي، باعتبارهما من أبرز الفاعلين إلى جانب أوجلان، في دفع عجلة المبادرة نحو الانطلاق.

ورغم التعقيدات المحيطة بالمشهد العملياتي، لا تزال العملية بحاجة إلى المزيد من بناء الثقة، خاصة وأنّ الحكومة التركية قد تبنّت مؤخراً نهجاً مستوحى من أساليب الدبلوماسية البريطانية في التفاوض مع الجماعات المسلحة. هذا النهج تأثر بشخصيات مثل جوناثان باول، الذي يرى أن الضغط النفسي والأمني يشكل أداة فعالة لدفع الخصوم إلى طاولة المفاوضات، ولعل سلسلة الاعتقالات وفرض الأوصياء على البلديات، بالإضافة إلى الحرب المستمرة ضد شمال شرقي سوريا، يندرج ضمن هذا السياق.

المفارقة أنّ باول، الذي يشغل منصب مستشار الأمن القومي البريطاني، كان أحد المهندسين الرئيسيين لمباحثات السلام الكردية التركية في 2013-2015، وسط مزاعم تشير إلى أن الاستخبارات البريطانية قد زوّدت أنقرة بتقارير حول تداعيات سقوط الأسد، وأهمية الانفتاح على القضية الكردية لتجنب أن تصبح مصدر تهديد لتركيا.

سابقاً، كان باول يرى أنّ نجاح عملية السلام يتطلب قيادة قوية تمثلها ثنائية أوجلان-أردوغان. إلا أنّ المشهد السياسي شهد تحولاً ملحوظاً مع دخول دولت باهجلي، الذي كان في السابق من أشد المعارضين للسلام. ومع مرور الوقت، تبنى باهجلي اليوم خطاباً يتسم بالتقارب مع رؤية أوجلان، داعياً إلى الوحدة والتعددية، ومؤكداً على أهمية إحياء قيم الأخوة التاريخية.

شمال شرقي سوريا: صراع أوجلان وأردوغان

تمثل شمال شرقي سوريا ساحة مواجهة جديدة بين أوجلان والدولة التركية، لا سيما بعد سقوط الأسد، حيث تستمر أنقرة، عبر وكلائها، في استهداف قوات سوريا الديمقراطية. ويرى بعض المراقبين أن هذا التصعيد جاء بضغوط بريطانية لحث “قسد” على التفاوض مع دمشق، وتفادي مشاريع قد تتعارض مع المصالح التركية، بما في ذلك تلك المرتبطة بإسرائيل. في المقابل، أكد أوجلان، وفقاً لما نقله سري ثريا أوندر، على ضرورة حماية المنطقة وضمان حقوق سكانها ضمن إطار دولة دستورية عادلة.

ضمن هذا الإطار، دار في وقتٍ سابق صراع خفي بين أوجلان وأردوغان حول مستقبل روج آفا، حيث شدد أردوغان في عام 2013 على أن أي كيان سياسي هناك يُعدّ خطاً أحمر بالنسبة لتركيا، فيما ردّ أوجلان بأن العودة إلى ما قبل 2011 لم يعد خياراً ممكناً، معتبراً روج آفا بدوره خطًا أحمر.

ورغم هذا التباين، طرح أوجلان رؤية مختلفة للعلاقة الكردية-التركية، داعياً إلى بناء تحالف استراتيجي يستند إلى روح “الميثاق المليّ”. كما وجّه انتقادات حادة للسياسة الخارجية التركية، التي تجاهلت الكرد في سوريا، مشيراً إلى أن اعتماد أنقرة بشكل حصري على الكتلة السنيّة العربية لكبح الصعود الكردي كان رهاناً غير واقعي.

حالياً، تتجلى معضلة السياسة التركية في اعتمادها على الفصائل السنيّة المتطرفة كأداة لتنفيذ السياسات، وهو رهان يحمل في طياته تناقضات عميقة، ساهمت فيه بريطانيا جزئياً، لكنه يواجه تعقيدات متشابكة تتداخل فيها الحسابات الأميركية والإسرائيلية. فواشنطن تعبر عن قلق متزايد إزاء احتمال سيطرة التنظيمات المصنفة إرهابية على المرحلة الانتقالية، دون أي مؤشرات على قبولها لهذا السيناريو، مما قد يفضي إلى تضارب حاد في المصالح بين أنقرة وحلفائها الغربيين، إلى جانب تصعيد إسرائيلي غير مسبوق في سوريا.

لا شك أن التباين في الرؤى بين أوجلان وأردوغان حول الملف السوري لا يزال قائماً، حيث يدعو أوجلان الحكومة التركية إلى تبني حلول ديمقراطية. ومن المرجح أنه اقترح على قيادة “قسد” عبر رسالة خاصة إلى مظلوم عبدي، ضرورة إبداء بعض المرونة تجاه حكومة أحمد الشرع الانتقالية. ومع ذلك، يظل أوجلان متمسكاً بمفهوم “المجتمع الديمقراطي” كإطار قانوني يضمن حماية التنوع وتعزيز المواطنة الدستورية، ويعمل ضمن رؤية سورية شاملة تستوعب كافة أطيافها الاجتماعية والسياسية. في هذا السياق، قد تمثل زيارة وفد إيمرالي إلى شرق الفرات، التي تم الإعلان عنها مؤخراً، خطوة أولى نحو التوصل إلى تفاهم مشترك بين أوجلان وأردوغان بشأن مستقبل شمال شرقي سوريا وسوريا بشكل عام.

على الصعيد الأوسع، تؤكد رؤية أوجلان على ضرورة تحويل العلاقة بين الكرد والترك من صراع إلى تفاهم وشراكة تشمل الجانب السوري أيضاً، شرط توفر بيئة سياسية، تؤسس لنظام قائم على “المواطنة الدستورية” و”المجتمع الديمقراطي الحر”. هذه المفاهيم تتطلب شرحاً أوسع في المقال المقبل، بناءً على ما جاء في ندائه الأخير.