لا ينفك يراقب المتابعون مصير المفاوضات القائمة بين قيادة حزب المساواة وديمقراطية الشعوب وحكومة العدالة والتنمية وزعيم حزب العمال الكردستاني المعتقل عبدالله أوجلان لمعرفة مسار القضايا العديدة المرتبطة بهذا الملف الذي يتجاوز تأثيراته الجغرافية التركية، ويصل إلى عموم سوريا والعراق وإيران. المفاوضات التي لا بد ان يكون لها دور بارز في تحديد آليات حل الإشكاليات بين أنقرة وجبال قنديل، سيكون لها أيضاً دور بارز في تسهيل مهمة حل الإشكاليات الحالية بين القامشلي ودمشق. قسد، التي تتهمها تركيا مرارا بتبعيتها للعمال الكردستاني، تدرك أن وصول الطرفين، وأقصد هنا العمال الكردستاني والدولة التركية، إلى حل ديمقراطي يؤمن السلام للشعبين الكردي والتركي وعموم تركيا سيبعد المخاطر المرتبطة بهجمات تركية جديدة على شمال وشرق سوريا، ويُخفف من التهم تلك عنها. خاصة، إن قسد نفسها تبحث عن حل سلمي وديمقراطي للخلافات غير المحلولة لهذه اللحظة مع حكومة دمشق رغم مرور ما يقارب الشهرين من سقوط نظام الأسد. وهذا يزيد من اعباء ومخاوف السكان المحليين في شرق الفرات من ضبابية المسار السياسي والأمني لمصير ما يزيد عن ثلث سكان وجغرافية سوريا المتمركزة في شمال وشرق سوريا.
الحوارات الحالية بين تركيا وإيمرالي التي وصلت قافلتها التي يقودها قادة حزب “المساواة وديمقراطية الشعوب” إلى أربيل، وتسير نحو السليمانية، وتستمر في تواصلها مع إيمرالي وأنقرة وقادة قنديل، يبدو في طريقها للنضوج والظهور للعلن. هذه الحوارات مرتبطة أيضاً بالعوامل الداخلية الانتخابية والحزبية في تركيا أكثر ما هي مرتبطة بالتفاصيل الأمنية الحالية لخطوط الاشتباك المرتبطة بتركيا، والممتدة من سد تشرين إلى المثلث الحدودي القابع بين تركيا وإيران وإقليم كُردستان العراق. الربط بين سد تشرين والمثلث الحدودي هو ربط افتراضي تركي تنفذه أطراف تابعة لها على كونها حقائق ووقائع لا جدال فيها. وهذا يدفع المنطقة التي تحكمها الإدارة الذاتية للانهاك والنزف المستمر. ربط تحاول قسد مراراً الابتعاد عنه دون قبول تركي عمدي هدفه فيما يبدو الضغط عبرها على الأطراف الكردية في تركيا، واستخدامها لكسب النقاط في ملفاتها الداخلية. الضغط الذي يستغل ترابط الدم بين الأطراف الكردية بصورة فيها الكثير من الانتهازية السياسية. هذا رغم اصرار قسد على كونها ذات هوية محلية سورية بعيدة كل البعد عن الأطر القومية التي تحاول تركيا تطبيعها بها.
قسد بدورها التي تحاول الصمود عسكريا في المعركة الحالية عند سد تشرين، تحاول التواصل مع دمشق بقيادة الحكومة الجديدة لفتح مسار سياسي حقيقي “سوري سوري” هدفه بناء الثقة، والوصول إلى ما يفيد البلاد دون ربط ذلك المسار بالمصالح الداخلية لقادة دولة مجاورة كتركيا. وهذا خيار منوط بقادة دمشق على تبنيه أكثر منه قدرة لدى قسد على فرضه. الطرح القادم من قسد، ومحاولات شرحها لدمشق هي الأكثر الممكن سياسياً فعله من جانبها في حين الفعل المرتبط بقبول الطرح والعمل على بلورته سياسياً هو خيار ممكن ومتاح لحكومة دمشق، وعامل إضافي لكسب الثقة لدى سكان الثلث السوري الخارج عن سيطرتها. وهو الخيار العملي الأنسب الذي سيقوم بإيقاف نيران المعركة العبثية عند سد تشرين، ويخفف من حدة الدماء هناك، ويقلل من شحنة الشرخ الاجتماعي بين الأطراف الراغبة بتقديم صورة صراع قومي بين الأطراف المتحاربة. هذه الصورة التي تعاني من الكثير من المثالب وعدم الواقعية على اعتبار ما يقارب الثلثين من قوات قسد هي قوات عربية قادمة من عشائر عربية مختلفة وأصيلة ممتدة من شواطئ نهر الفرات إلى مضارب الحسكة.
وعلى الرغم من التمني الكردي العام بوصول تلك القافلة للسلام المنشود إلا أن قادة الإدارة الذاتية لا بد وأنهم يمنون النفس أكثر بفصل مصيرهم بمصير تلك القافلة، والبحث عن حل لقضايا منطقتهم مع دمشق، دون تداخل مع ملف قد يكون أكبر وأكثر تعقيد وإشكالية من ملفهم الواضح مع “دمشق”. دمشق التي تبحث بدورها عن الاستقرار لتجاوز مرحلة انهيار نظام الأسد وبناء الدولة من جديد. وهذا قد يخفف من الخوف العام من طبيعة علاقة حكومة دمشق مع الكرد الذين لا زالوا يعاني الكثير منهم من سنوات من الانتهاكات بحقهم في مناطق كعفرين ورأس العين ولا يملك الكثير من النازحين منهم الثقة بإمكانية العودة إلى منازلهم بعد سنوات النزوح المريرة.
ان السياق السياسي المرتبط بمصير شرق الفرات لا يمكن أن يبقى حبيس الاشتباك العبثي عند سد تشرين أو حبيس الضربات الجوية التركية للمناطق ذات الكثافة الكردية للأبد. السياق هذا يحتاج إلى مبادرة من دمشق قائمة على القدرة على استقبال الطرح القادم من القامشلي بصورة أكثر “استقلالية وحرص” على تبادل الآراء والتفاهم الهادف للصالح السوري العام. السياق السياسي هذا هدفه تحييد القضية المحلية هذه من الملفات التي تحملها تلك القافلة الجارة، والبحث عن جذورها المحلية الممتدة لعقود من الاضطهاد قاده حزب البعث. التحييد المطلوب هذا قد يعزز القدرة على بناء القدرة لدى الأطراف العاملة في سوريا على بناء أرضية قانونية وسياسية ناجعة لأهم ملف سياسي وأمني واقتصادي غير محلول حتى هذه اللحظة من قبل دمشق. الملف الذي قد يكون حله بداية لولادة لرحلة قافلة جديدة هدفها تعزيز العيش المشترك وبناء السلام والدولة بصورة أكثر استقرار ونمو في سوريا ما بعد البعث، وقد يكون نهاية لحالة عدم اليقين لدى كرد سوريا من سياسات التهميش التي عايشوها لعقود مع حكومات دمشق السابقة ودافع أكبر لهم للانخراط أكثر في الشأن العام الذي حرموا منه لعقود طويلة.