منذ سقوط النظام في 8 ديسمبر 2024، انتشر خطاب تحريضي غير مسبوق وخطير ضد الكُرد، تجاوز الخلافات السياسية إلى الدعوة الصريحة للقتل والإبادة، مستخدماً أوصافاً مهينة مثل “الانفصاليين”، “الخنازير”، و”الملحدين”. شخصياً، اطلعتُ على آلاف التعليقات التي تحمل خطاباً تحريضياً خطيراً ضد الكُرد (وهنا أقصد تلك التي قصدت الكرد حرفياً وليس قسد) ودعت لقتلهم وعدم الرأفة بهم.
أحدها على سبيل المثال، وليس الحصر، مقطع صوتي نُشر في مجموعة “أخبار درع الفرات” على تطبيق “تلغرام”، والتي يتابعها 590 ألف شخص، يقول: “لا ترحموا الأكراد، الأكراد خنازير، الأكراد أشّد كُفراً من العلوية، كل من يُمسكُ كردياً ويذبحهُ فأنه يتقرب به من الله“. كما ظهرت تعليقات علنية مثل: “لا سلام مع المحتلين المرتزقة الملحدين، إن شاء الله ضرب رقابكم قريب جداً، وتحرير الجزيرة العربية السورية المسلمة قريب جداً“.
هذا الخطاب، الذي يقوده أشخاص مؤثرون يتابعهم عشرات آلاف الأشخاص عبر منصات التواصل الاجتماعي واسعة الانتشار (كفيس بوك وتلغرام ومنصة X “تويتر سابقاً”)، لا يستهدف جهة سياسية بعينها، بل يستهدف الكُرد كشعب وهوية، تماماً كما استُخدمت الفتاوى والخطابات التحريضية على مرّ التاريخ لتبرير المجازر بحق جماعات أخرى، مثل الإيزيديين أو المسيحيين.
خطورة التحريض وآثاره:
هذا الخطاب التحريضي يذكرني بأمرين:
- الأول، أنّ المحرضين على الكُرد، والداعين إلى إبادتهم منذ قرون، يتجاهلون -عمداً- حقيقة أن غالبية الشعب الكُردي مسلمون، ويذكرني هذا بالهجوم الأول لفصائل “الجيش الحر” -الموالية منها لتركيا- على مدينة رأس العين/سري كانيه أواخر عام 2012، ومعاركهم ضد “وحدات حماية الشعب” لاحقاً، حين كان كثير من مقاتلي الفصائل يعتقدون أنهم يحاربون “كفاراً ملحدين”، وأن قتال الكُرد هو “تقرب إلى الله”، وفقاً لروايات قادتهم وداعميهم. لكن عندما دخلوا المدينة، صُدم كثيرون منهم برؤية القرآن والطابع الإسلامي في منازل كرد المدينة، حتى أن بعضهم انسحبوا بعدها وآثروا التوجه لقتال النظام بدلاً من ذلك. علماً أن رأس العين/سري كانيه كانت تضم خليطاً من القوميات والأديان، وكان يعيش فيها المسلمون والمسيحيون والايزيديون جنباً إلى جنب، بما فيهم العرب والكرد والأرمن والسريان والشيشان والشركس والتركمان وغيرهم.
- الثاني، هو الفتاوى التي صدرت عبر التاريخ ضد الإيزيديين، والتي أفتت بحلّ قتلهم، استباحة أموالهم، واسترقاق نسائهم، على أنّ قاتلهم ينال ثواب الداريّن، الدنيا والآخرة. هذه الفتاوى لم تكن مجرد كلمات، بل ساهمت في خلق بيئة معادية لهم، مهدت لإبادتهم وتشريدهم مراراً[1]. وقعت آخر عمليات الإبادة الجماعية، المعترف بها، بحقّ هذه الأقلّية الدينية في المنطقة خلال عام 2014، وتحديداً من قبل التنظيم الذي يطلق على نفسه اسم الدولة الإسلامية في العراق والشام، والمعروف إعلامياً باسم (داعش). عندما هاجم منطقة سنجار/شنكال العراقية واحتجز ونقل آلاف الايزيديات وأطفالهن إلى سوريا، حيث تعرضوا لفظائع تفوق الخيال، بما في ذلك قتل الرجال، وسبي النساء وبيعهن في الأسواق، وتجنيد الأطفال كمجاهدين.[2]
مع سقوط النظام، من يوقف إراقة الدماء؟
اليوم، هناك من يصرّ على وصف الكُرد بـ”الانفصاليين”، رغم أن المواقف الكُردية الرسمية لا تدعو إلى الانفصال، بل إلى وحدة سوريا على أسس عادلة، تعترف بحقوق الجميع، وتكفل إدارة المناطق المختلفة من قبل سكانها ضمن نظام لا مركزي يحترم التنوع. لكن كما في كل مراحل التحريض التي سبقت المجازر، يتم ترسيخ صور نمطية خطيرة لتبرير التمييز والعنف.
هذا الخطاب يعيد إلى الأذهان الانتهاكات المستمرة بحق الكرد من قبل فصائل “الجيش الوطني السوري” في عفرين[3]، حيث تمّ تهجير سُكانها الكُرد، وباتت ساحةً لانتهاكات لا حصر لها، تضمنت القتل، الاعتقال التعسفي، الإخفاء القسري، والتعذيب وسوء المعاملة، والاستيلاء على الممتلكات، وممارسات التتريك والتغيير الديمغرافي. وكذلك رأس العين/سري كانيه، التي هُجر منها أكثر من 85% من سكانها، ليس الكُرد فقط، وإنما الأرمن والسريان والشيشان والايزيديين، وكذلك العرب.[4]
لما لا وقد تصدّر المشهد السوري اليوم، قادة في “الجيش الوطني السوري” مدرجين مع مجموعاتهم في قوائم العقوبات الصادرة عن وزارة الخزانة الأمريكية بسبب ارتكابهم انتهاكات جسيمة وجرائم حرب بحق الكرد والايزيديين، بما في ذلك القتل، والاختفاء القسري، ونهب الممتلكات في عفرين ورأس العين/سري كانيه. من بينهم، على سبيل المثال: محمد الجاسم “أبو عمشة” قائد فرقة السلطان سليمان شاه (العمشات)، و “سيف بولاد أبو بكر” قائد فرقة الحمزة[5]، وأحمد إحسان فياض الهايس المعروف باسم “أبو حاتم شقرة”، الذي أعدمت مجموعته السياسية الكُردية “هفرين خلف” وسائقها ومرافقيها خلال الأيام الأولى من عملية “نبع السلام” التركية[6].
في هذا الوقت، تستمر هجمات فصائل “الجيش الوطني السوري” بدعم تركي على مناطق شمال شرق سوريا، تحت مسمى عملية “فجر الحرية”، منذ 30 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، والتي راح ضحيتها عشرات المدنيين حتى الآن، كما أدت إلى تهجير قسري لأكثر من 120 ألف شخص، معظمهم من كُرد عفرين، في تكرار لمأساتهم عام 2018 نتيجة عملية “غصن الزيتون” التركية. كل ذلك يزيد من مخاوف الشعب الكُردي وغيره من شعوب وأقليات مناطق شمال شرق سوريا، التي تحتضن أكثر من مليون نازح داخلي، بينهم عشرات آلاف المهجرين/ات من ضحايا جرائم وانتهاكات الفصائل ذاتها.
يجري ذلك في لحظات تاريخية تنفّس فيها ملايين السوريين/ات الصعداء مع سقوط نظام الأسد، ودعت فيها الأمم المتحدة جميع الأطراف المسلحة إلى ضبط النفس ووقف التصعيد، حيث أكد المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا، غير بيدرسون، على أهمية الحفاظ على القانون والنظام، حماية المدنيين، واحترام المؤسسات العامة. كما شدّد على ضرورة إعطاء الأولوية للحوار، داعياً إلى احترام القانون الإنساني الدولي وحقوق الإنسان كخطوة أساسية لإعادة بناء المجتمع السوري.
مسؤوليتنا تجاه مستقبل سوريا: التعايش المشترك هو الحل الوحيد
للأسف، يعيش أهلنا اليوم في خوف وقلق مستمريّن، بدلاً من الفرحة المفترضة بتحرير سوريا، لأن الخطاب التحريضي الكثيف وغير المسبوق قد يمهد لارتكاب انتهاكات وجرائم بحق الكرد، المسلمون منهم والايزيديون، وكذلك الأقليات الدينية في منطقة الجزيرة شمال شرقي سوريا.
إن استمرار هذا التحريض لا يهدد الكُرد وحدهم، بل يدفع سوريا بأكملها نحو نفق من الصراعات الدموية والانقسامات التي لا نهاية لها، والتاريخ مليء بالدروس القاسية التي تثبت أن التحريض يؤدي إلى الكوارث، لذا علينا جميعاً أن نتصدى لهذا الخطاب، أن نرفضه علناً، أن نقف في وجه من يسوّقه، وأن نؤكد أن سوريا تتسع للجميع، وأن العيش المشترك ليس خياراً ثانوياً، بل هو الضامن الوحيد لبقاء هذا الوطن، وبناء مستقبل آمن وعادل للجميع.
[1] يمكنك قراءة تقرير (الايزيديون في سوريا، عقود من الإنكار والتمييز)، منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” ورابطة “تآزر” للضحايا، بتاريخ 4 أيلول/سبتمبر 2022. (متوفر عبر الرابط: https://hevdesti.org/ar/yazidis-in-syria-ar/).
[2] “جاؤوا ليُدَمِروا: جرائم داعش ضد الأيزيديين”. لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا. بتاريخ 15 حزيران/يونيو 2016. رقم الوثيقة A/HRC/32/CRP.2.
[3] يمكنك الاطلاع على تقرير (عفرين: خمس سنين حاجة ظلم!. دراسة استقصائية عن الانتهاكات ضد الكُرد والايزيديين في شمال سوريا)، سوريون من أجل الحقيقة والعدالة، رابطة تآزر للضحايا، منظمة بيل- الأمواج المدنية، وجمعية ليلون للضحايا. بتاريخ 13 تشرين الثاني/نوفمبر 2023. (متوفر عبر الرابط: https://hevdesti.org/ar/ar-violations-against-kurds-and-yazidis-in-northern-syria/).
[4] يمكنك قراءة تقرير (رأس العين/سري كانيه وتل أبيض: حالة حقوق الإنسان بعد 5 أعوام من الاحتلال التركي)، رابطة “تآزر” للضحايا، 9 تشرين الأول/أكتوبر 2024. (متوفر عبر الرابط: https://hevdesti.org/ar/ar-ras-alayn-tall-abyad-five-years-after-turkish-occupation/).
[5] اقرأ المزيد: وزارة الخزانة الأمريكية تفرض عقوبات على فرقة السلطان سليمان شاه وفرقة الحمزة، وقادتهما، لارتكابهم انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في شمال سوريا، بتاريخ 17 آب/أغسطس 2023. (متوفر عبر الرابط: https://home.treasury.gov/news/press-releases/jy1699).
[6] اقرأ المزيد: وزارة الخزانة الأمريكية تفرض عقوبات على سجون ومسؤولين تابعين للنظام السوري وجماعة مسلحة سورية (تجمع أحرار الشرقية)، 28 تموز/يوليو 2021. (متوفر عبر الرابط: https://home.treasury.gov/news/press-releases/jy0292).