بعد تسع سنوات من الخدمة الإلزامية.. أعيد فاقداً للذاكرة من سجن صيدنايا

دلسوز يوسف – نورث برس

وسط مخيم “واشوكاني” للنازحين بريف الحسكة، شمال شرقي سوريا، يجلس عمر بازو (33 عاماً) على كرسي إلى جانب والديه بعد أن عاد إليهما من سجن صيدنايا وهو فاقداً للذاكرة ومختل عقلياً.

وتحت أشعة الشمس التي لم يراها عمر وهو الابن الأوسط للعائلة منذ دخوله السجن، قبل سنوات، تكشف والدته الجالسة بقربه عن ساقيه التي تظهر عليها ندوباً وتقول “هذه آثار الضرب والتعذيب، كما كان أحد يديه مكسوراً عندما وجدناه لكنه تعافى”.

وتأسس سجن صيدنايا في ثمانينيات القرن الماضي، وأطلقت عليه “منظمة العفو الدولية” قبل سنوات وصف “المسلخ البشري”، والسجن الذي “تذبح فيه الدولة السورية شعبها بهدوء”.

قصة الاعتقال

في مشهد ممزوج بالفرح تصدر مقطع مصور لعائلة عمر أثناء اللقاء به في أحد مشافي دمشق تفاعلاً واسعاً على مواقع التواصل الاجتماعي بعد أيام من البحث عنه عقب سيطرة هيئة تحرير الشام على السجن ونقله إلى المشفى.

وتعود قصة اعتقال عمر بازو وفق عائلته، إلى عام 2018 عندما فقدوا الاتصال به، وهو في الخدمة الاحتياطية بعامه الـ 7 في قوات النظام السابق.

وتقول عائلته أن ابنهم الذي كان يخدم في منطقة الغوطة بدمشق، أخبرهم قبل نحو أسبوع من اختفائه، أنه سوف يتسرح من الجيش خلال الأسبوعين القادمين أي بحلول شهر آذار / مارس من عام 2018.

حيث وعد قادة الجيش الجنود وبينهم عمر أن عملية تحرير الغوطة ستكون الأخيرة لهم في الاحتياط وسيعود الجميع إلى منزله، حسب ذويه.

وبالفعل سيطرت قوات النظام السابق على الغوطة والتي كانت أبرز معاقل المعارضة قرب العاصمة، وذلك في الربع الأول من عام 2018، وذلك بموجب اتفاقية مع روسيا، لكن اختفى عمر بعد ذلك.

وعود وخدعة 

في كرسي ملاصق لعمر يقول والده حسن بازو عن اختفائه “لم أترك مكاناً إلا وبحثت فيه رغم إنهم كانوا يخبرونني بأن ابنك استشهد، ولكن قلبي لم يكن مطمئناً لأقوالهم”.

وفي رحلة بحثه، يروي الأب أنه وبمساعدة الأقارب والأصدقاء دفع مبالغ مالية باهظة كفدى للوصول إلى ابنه، حيث كان يتلقى وعوداً من المحاميين والضباط بلقاء ابنه “لكن كانت كلها خدعة”.

وسط حسرة العائلة بفقدان ابنها، أعيد لهم بصيص أمل عندما أصدر الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد عفواً بنهاية عام 2023، إذ وجدوا حينها صورة ابنهم على مواقع مقربة من النظام بأنه من المشمولين بالعفو.

ويقول والده عن ذلك “ذهبت إلى دمشق وبالفعل التقيت بابني في صيدنايا والتقطنا صوراً مع بعضنا البعض، وقتها لم تكن حالته هكذا ولم تتضرر ذاكرته إلى هذا الحد”.

إلا أن فرحة العائلة بابنهم المغيب لم تكتمل حتى أخفي مجدداً وفقد الاتصال به، بالرغم من شموله العفو.

وبقي الحال هكذا إلى حين تحريره من المعتقل عقب السيطرة على السجن من قبل هيئة تحرير الشام.

دعم نفسي

يضيف والد عمر: “لقد تغير ابني فهو الآن فاقد لقدراته العقلية وتوصيات الأطباء تقول بأنه يحتاج للعلاج والدعم النفسي إضافة إلى العلاج الجسدي بسبب وجود آثار للتعذيب على جسده”.

لم يكن عمر لوحده خرج هكذا، حيث ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بعشرات الأشخاص في حالة نفسية يرثى لها، حيث خرج بعضهم فاقداً للذاكرة أو فقدان القدرة على الاستيعاب نتيجة شدة التعذيب خلال سنوات الاعتقال الطويلة.

ونظراً لحالته الصعبة، لا يدرك عمر حتى الآن، أن عائلته باتت تفترش خيمة كنازحين بعد سيطرة الجيش التركي وفصائل موالية له، على قريتهم تل عطاش بريف مدينة سري كانيه (رأس العين) أواخر عام 2019.

ويؤكد أفراد العائلة الذين لا يفارقونه منذ خروجه من السجن، حيث أنه يعاني من اضطرابات نفسية وعقلية، إذ يقول أحد أشقائه: “أثناء النوم ننام في أحضان البعض خشية أن يصيب نفسه بمكروه بدون قصد”.

شهادة وفاة

رغم استلام العائلة شهادة وفاة ابنهم في دمشق، إلا أن الوالدة السبعينية دائماً كانت تقنع نفسها وتصر بأن ابنها لا يزال حياً.

وعلى الجانب الأيسر من عمر، تقول والدته يازي الناصر إنها خلال فترة اختفائه لم توقف البحث عنه في كل مكان.

وتضيف “الناصر” بنبرة يغلبها الحزن “عشت في سنوات غيابه حسرة الأم على ابني المفقود، فقد تركت منزلي وأولادي الآخرين وكل شي وكنت أبحث عنه”.

وتصف حالته الصحية عند اللقاء به في المشفى بحالة لا يرثى لها.

فيما تشير إلى أن حالته الآن تحسنت قليلاً (..)، فيما يفضل عمر البقاء في الشمس كثيراً ولا يحب المكوث في الداخل وطعامه خفيف، فيما أوصاهم الأطباء في المستشفى بضرورة مراجعة طبيب نفسي للعلاج وتغذيته بالطعام والسوائل جيداً”.

ووسط نشوة فرحتها برؤية ابنها مجدداً، إلا أن الناصر لا تزال تتحسر على ابنها “الذي كان في كامل قواه العقلية والآن قد خسرها ويصعب علي رؤيته في هذه الحالة”.

ووفق تقارير حقوقية، جرى منذ عام 2011 إعدام آلاف الأشخاص خارج نطاق القضاء في عمليات شنق جماعية تُنفذ تحت جنح الظلام، وتُحاط بغلاف من السرية المطلقة.

وقُتل آخرون كثر من المحتجزين في سجن صيدنايا، جراء تكرار تعرضهم للتعذيب والحرمان الممنهج من الطعام والشراب والدواء والرعاية الطبية.

تحرير: خلف معو