السجين 86 في صيدنايا.. 100 دولار جعلته “ممولاً للإرهاب”

دلسوز يوسف – الحسكة

لم تمض لحظات على استلام عبد الله مبلغاً قدره 100 دولار أميركي أرسلها له صديق كان يعملان معاً قبل مغادرته سوريا وذلك عن طريق شركة في دولة قطر حتى حاصرته دورية أمن للنظام السوري السابق وسط العاصمة دمشق، قبل أربع سنوات.

في منتصف عام 2020، اعتقل عبد الله خليل (25 عاماً) من قبل فرع 215 العسكرية بتهمة “تمويل الإرهاب” لاستلامه حوالة مالية من دولة خارجية “معادية”، حسبما وجهه له ضابط تحقيق برتبة رائد يدعى “علي”.

ورغم إنكار خليل للتهمة، إلا أنه أضطر فيما بعد بإدانة نفسه تحت التعذيب وشدة الضرب، ليمكث بالسجن في ذلك الفرع لمدة 6 أشهر، قبل أن يتم نقله إلى سجن صيدنايا سيء الصيت بعد إجباره بالبصم على أوراق يجهل محتواها، وفق قوله.

وكان خليل يعيش في دمشق قبل اعتقاله بخمس سنوات، إذ كان يعمل بجانب دراسته في مطاعم بالمدينة.

يروي “خليل” الذي أمضى أكثر من 4 سنوات في سجون النظام السابق بينها أكثر من 3 سنوات في صيدنايا، التجربة الأكثر رعباً في حياته لـ نورث برس.

“السجين رقم 86”

في قرية تل مساس بريف الحسكة، حيث منزل أهله الذين نزحوا إليها عقب سيطرة القوات التركية وفصائل المعارضة على منزلهم في مدينة سري كانيه أواخر عام 2019، لا يزال “خليل” يعيش هاجس السجن وأهواله.

ويقول وهو جالس على كرسي في بهو المنزل تحت أشعة الشمس: “لا زلت أخاف الخروج في الليل بمفردي، ولا تزال الكوابيس تلاحقني في منامي”.

بعد برهة من التأمل، عاد “خليل” بذاكرته إلى لحظات وصوله إلى صيدنايا، التي لا زالت آثار تعذيبها على جسده حتى الآن.

يقول “خليل”: “كانت الساعة 11 ظهراً عندما وصلنا إلى سجن صيدنايا رفقة 33 مدنياً و8 عساكر معتقلين كانوا مقيدين بسلاسل حديدية واحدة”.

ويضيف: فيما كان 19 معتقلاً أخرين متهمين بـ “الإرهاب” في سلسلة واحدة نقلوا إلى السجن “الأحمر”، والذي عرف للسوريين وحشيته عقب سقوط النظام.

ومع دخولهم لصالة السجن أمرهم الضابط بنزع ملابسهم والتمدد أرضاً لينهال على جميعهم بـ 13 ضربة بالعصي، قبل أن يوجه لهم إهانات لفظية واتهامات بـ “الإرهاب وتدمير البلد”.

بعد الانتهاء من ضربهم، قام ضباط السجن بتغيير أسمائهم حيث تحول اسم عبد الله خليل إلى الرقم 86، وهذا الأمر انطبق على السجناء بأكملهم، “داخل السجن عندما يتم مناداة أحدهم برقمه ولم يرد، يكون بذلك قد حكم على نفسه بالموت”.

ويشير إلى أنهم “كانوا يعذبون السجناء على مسامعنا لنرتجف خوفاً (..)”، مضيفاً أن سجن صيدنايا “هو مسلخ بشري حقاً”.

وتأسس سجن صيدنايا في ثمانينيات القرن الماضي، وأطلقت عليه “منظمة العفو الدولية” قبل سنوات وصف “المسلخ البشري”، والسجن الذي “تذبح فيه الدولة السورية شعبها بهدوء”.

وكان يتقاسم “خليل” غرفة اعتقاله مع 38 سجيناً ضمن مساحة مترين بمترين، على حد قوله.

ويقول: “كنا ننام بوضعية السيف (النوم على جنب) ضمن بطانيات مليئة بالأوساخ والقمل مفترشين الأرض الباردة على مناوبات لكي تستوعبنا المساحة”.

فنون التعذيب

خلال السنوات التي قضاها في المعتقل، يقول السجين الرقم 86 بأن السجانين كانوا يتفنون في تعذيبهم، وكانت لكل حالة تعذيب مسمى.دمشق

ويذكر أنواع التعذيب التي تعرض لها، وهي “التشبيح الأمامي”، حيث يضع السجان الأصفاد الحديدية التي تكون كالشفرات على المعصم وتعليقهم بالسقف على رؤوس أصابعهم الكبير.

وهناك أيضاً “التشبيح الخلفي” الذي حيث يتم فيها رفع الذراعين من الخلف ويعلق السجين في السقف، بحيث يصبح وزن الجسم كله حملاً على الكتفين لتنخلع بعد ساعة إلى ساعتين بحسب خليل.

ويتابع أن هناك أيضاً طريقة “بساط الريح”، حيث يمدد المعتقل على بساط وينهال السجان عليه بالضرب بالتزامن مع رش المياه فوقه، وهي “أصعب من الإصابة بطلق ناري”، كما أن هناك طريقة أخرى للتعذيب في صيدنايا تدعى “الفروجة”.

كما كان يمارس بحق المعتقلين حرب نفسية قاسية، بالإضافة إلى التجويع، بحسب “خليل”.

ويقول: “في إحدى المرات وبسبب سرقتي لرغيفي خبز من الجوع الشديد تم وضعي في المنفردة ثلاثة أيام منزوع الملابس في حجرة أبعادها متر بنصف متر”.

ويضيف: “عند النوم كنت أضطر إلى طي قدماي وعند الأكل لم أكن أستطيع رؤية وتمييز الطعام وبعد الخروج من المنفردة يتم تطبيق عقوبة التعليق والإهانات والشتم دون أن نرفع رؤوسنا”.

كما كان يعاقب بعض السجناء بعد إخراجهم من المنفردة بوضعهم في الدولاب (عجلة) وضربه بالعصي عشرات المرات.

ويقول خليل إنه قبل تحريرهم بخمسة أيام “تم سوق 33 شخصاً إلى الإعدام من الجناح الأمني وإعدامهم بعد أن تم تلبيسهم البدلات الحمراء في الممر ولا نعرف إلى أين تم أخذ جثثهم”.

ظروف السجن

يشير الشاب الناجي من سجن صيدنايا عبد الله خليل إلى أن السجن كان بارداً جداً في الشتاء وحاراً صيفاً”.

ويقول إنه “مات الكثير من المعتقلين لعدم مقاومة أجسامهم للأمراض المنتشرة بكثرة في السجن”.

أما عن الطعام، يقول خليل: “يومياً كانوا يجلبون لنا 4 إلى 5 حبات زيتون صباحاً، وفي الظهيرة حفنة من الأرز أو البرغل المسلوق في الماء فقط وبدون ملح، والعشاء كان نصف ملعقة من اللبنة أو الحلاوة أو قليل من الماء والزعتر على وجه كسرات من الخبز”.

ومن المفارقات التي عاشها عبد الله خليل داخل السجن، بأنه دائماً كان يتضرع لله بأن لا يأت أحد من ذويه لزيارته “فكل معتقل يحاول أهله البحث عنه أو زيارته فهو لا يعود مجدداً إلى المعتقل، كان يختفي فوراً أي أنه كان يعدم”.

ويقول عن لحظات خروجه، “في يوم تحريرنا وقبلها بساعتين جاء المفتش وشتمنا وأمرنا بالنوم، وفجأة سمعنا صوت قوي لطائرة هيلوكوبتر وبعدها بساعتين لم نسمع صوت أحد منهم”.

ويضيف: “بعدها بعشر دقائق دخل أناس مدنيون من المنطقة، وقاموا بتحريرنا ومخاطبتنا أنتم أحرار ولم نكن نتوقع سقوط نظام بشار الأسد وكنا نعتقد بأن الناس هاجمت السجن لتحرير المعتقلين وأبنائهم”.

ليخرج الشاب عبد الله خليل رفقة المعتقلين الآخرين مسرعين دون تحديد وجهتهم.

وعقب وصوله إلى العاصمة دمشق، مكث “خليل” ثلاثة أيام في الجامع الأموي إلى حين تمكن ذووه من الوصول إليه وإعادته إلى المنزل.

وبعد سنوات من الاعتقال ظلماً، يطالب “خليل” أسوة بغيره من المعتقلين بأن تنال العدالة حقهم من النظام السابق.

تحرير: خلف معو