ناجٍ من صيدنايا.. فارق والداه الحياة دون أن يعلموا أنه حي
نالين علي – القامشلي
بعد حديث دام لأكثر من نصف ساعة توقف أبو زيد (32 عاماً)، من سجناء صيدنايا، عن الحديث وبدأ بالبكاء عند سؤاله عن والديه اللذيْن قد فارقا الحياة دون أن يعلما أنه قابع في السجن وهو على قيد الحياة.
اعتُقل أبو زيد رمضان، وهو من سكان حي قناة السويس في مدينة القامشلي، بداية عام 2018، بقي ثلاثة أشهر في فرع فلسطين ثم تم نقله إلى سجن صيدنايا.
لم يعرف ذوو أبو زيد أنه كان على قيد الحياة فقد اختفى عندما كان في الخدمة الاحتياطية بقوات النظام السابق.
وكان أبو زيد قد تسرح من الجيش بعد أن قضى فيه خمس سنوات، وبدأ بعدها بالعمل في مطعم بمدينة جرمانا، ليتم بعدها اعتقاله وسوقه للاحتياط.
وبعد أربعة أشهر فر من الخدمة الاحتياطية، إلا أنه بعد أيام من فراره تم القبض عليه، ونقل إلى السجن، ولم يعرف حينها أهله ما حل به، وفيما بعد نصبوا خيمة عزاء على أنه قد قتل.
لا يزال أبو زيد لا يصدق أنه خرج من سجن صيدنايا وأنه عاد إلى بيته بعد رحلة تعذيب وضرب دامت لسبع سنوات متواصلة.
يجلس بغرفة صغيرة مع مَن تبقى من عائلته، ويتغطى ببطانية بالقرب من المدفأة بعد حرمانه من هذه الأمور لسنوات طويلة.
لا يمكنه أن يرفع رأسه أو أن ينظر إلى أحد، ولا تزال ترافقه أصوات المحققين اللذين منعوه من رفع رأسه والنظر إلى الأعلى.
بصوت خفيف وكلام باللغة العربية أحياناً وبالكردية أحياناً أخرى، يتخوف أبو زيد من التحدث، أو يمكن القول إنه نسي لغته الأم من شدة التعذيب الذي مُورِس عليه.
سبع سنوات بالمسلخ البشري
يتحدث أبو زيد، لنورث برس عما شاهده من ظلم وتعذيب ضمن سجن صيدنايا، فقد كان عسكرياً ضمن الفرقة الخامسة (لواء 112) بمدينة درعا.
بقي في الخدمة الإلزامية والاحتفاظ على مدار خمس سنوات، بعدها تسرح بشكل نظامي، وانتقل إلى مدينة جرمانا بدمشق، وعمل ضمن مطعم هناك قرابة عام.
يقول: “في أحد الأيام وأنا في طريق العودة إلى المنزل أوقفني حاجز في حي الشعلان، وطلبوا هويتي، بعدها تفاجأت بكلامهم: أنت مطلوب احتياط، على الرغم من أنني أعطيتهم أوراقي وإثباتات أني متسرح من الخدمة العسكرية منذ سنة، لكن دون جدوى”.
ويضيف: “عدت مرة أخرى إلى الخدمة العسكرية، لكن لم أبقَ سوى أربعة أشهر، تمكنت من الهرب أنا ومعي (أربعة من رفاقي) وكانوا أيضاً كرداً، وبقيت بعدها يومين في الشوارع وأنا أتناول الطعام من الحاويات”.
لكن سكان تلك المنطقة في درعا رأوا أبو زيد وهو يرتدي بدلة عسكرية فقاموا بالاتصال بالشرطة العسكرية وتم اعتقاله، على حد قوله.
ويشير إلى أنه بقي في البداية عدة أيام لدى الشرطة العسكرية، بعدها تم نقله إلى فرع فلسطين بدمشق، وبقي هناك في المنفردة لثلاثة أشهر.
ويقول: “في الشهر الأول لم يتكلم معي أحد أبداً، لكن في الشهرين الأخيرين بدأوا بضربي ومحاسبتي لأنني هربت من الجيش”.
وبعد أن تم نقله إلى سجن صيدنايا، لم يذهب إلى القاضي، قائلاً إن العناصر أخبروه بأن “تهمته كردي معارض ولا داعي لمقابلة القاضي، ولن يرَ النور بحياته”، ونُقل إلى المحكمة الميدانية بسجن صيدنايا.
يضيف: “بقيت عدة أيام في المنفردة أتناول الطعام وأشرب من نفس الوعاء المخصص للمرحاض، ولا مجال للكلام أو الرفض”، قائلاً “تلقيت قرابة 150 ضربة بالكبل على رجل وحداة، لأنني رفضت أن آكل من ذلك الوعاء”.
وفيما بعد أخبره السجناء اللذين كانوا متواجدين معه ضمن الزنزانة بأنه مجبر على الأكل بهذه الطريقة، وأخبروه بلهجة عامية: “أنت لسى ما شفت شي من العذاب هون”.
ويبين أنهم كانوا عشرة أشخاص ضمن تلك الزنزانة في البداية، ثلاثة منهم من مدينة كوباني والبقية من إدلب وحماة.
يقول: “سألتهم عن أسمائهم لم يجب أحد، ولا أحد يتذكر ما اسمه، ونظروا لي، وقالوا حتى أنت سوف تنسى اسمك هنا، هنا أنت مجرد رقم”.
ويضيف: “كتبوا على يدي رقم 125 وقالوا هذا اسمك منذ اليوم، ونبهوا علي في حال أنني نسيت الرقم سأتعرض للتعذيب”.
“لا أحد يخرج من صيدنايا”
الغرفة كانت صغيرةً جداً لم يستطع أحد مد أرجله، ويقول أبو زيد “كنا نجلس بشكل مقعدي ورأسنا منحني إلى الأرض دائماً، الكاميرات كانت فوق رؤوسنا، وأي شخص يحاول رفع رأسه كان يؤخذ للتعذيب”.
ويضيف: “أمّا الطعام والماء كان يأتينا من تحت الباب، لم نكن نرى شيئاً سوى أحذية العناصر فقط، ولا أحد يخرج من سجن صيدنايا، من يدخله يبقى فيه حتى يموت، أو يخرج فاقداً عقله”.
يقول أبو زيد إن أكثر ما استغربت من مشاهدته ضمن السجن هو وجود نساء وأطفال، وكنت أتساءل بنفسي ماذا يفعل النساء والأطفال بهذا السجن وما جرمهم؟.
عملية التحقيق كانت تجري كل يومين، كنا نضع أيدينا على أعيننا ورأسنا على الأرض، فقط كنا نسمع كلامهم أثناء التحقيق معنا، وحين سأل الضابط عن تهتمي، أجابه بعضهم: “هذا كردي وهارب من الجيش، ليرد عليه الضابط بلهجته (هاد دبارو عندي)”.
ويشير بالقول: “في الصباح كان طعامنا قطعة خبز يابس ونصف حبة بطاطا، أما في المساء كان قطعة خبز يابس وملعقة واحدة من البرغل، وبهذه الطريقة كنا نعرف الصباح من المساء، وعلى مدار سبع سنوات ضمن السجن كان هذا طعامنا”.
أمّا التعذيب والتحقيق مع السجناء كان يمارس بشكل يومي، قائلاً: “لم يمر يوم واحد دون أن نسمع أصوات التعذيب والصراخ، بقي صراخ النساء وبكاء الأطفال عالقاً في أذني وكأني أسمعه الآن”.
أمّا عملية الإعدام “فكانت تحدث كل كم يوم” وحتى الأشخاص اللذين كانوا معي ضمن الغرفة تم إعدام البعض منهم، وجلب سجناء آخرون للزنزانة.
ويقول: “أثناء التحقيق معي أول مرة كنت ارتدي بدلة حمراء، وهذا كان يرمز للسجن الأحمر، طلبوا مني خلع ملابسي، ليقوم المحقق بتشغيل سيجارة وإطفائها بجسدي، وهذه العملية تكررت حتى انتهاء السيجارة، هو لم يكن يدخنها، فقط كان يشعلها ويطفئها بجسدي ويعاود تشغيلها مرة أخرى وهكذا”.
والسجن الأحمر لا يمكنني تسميته “إلا بالـدمار، لا أحد يخرج منه، وإن تخرج منه، تخرج ميتاً أو فاقد العقل”.
ويضيف أن ما شاهدته ضمن السجن من تعذيب وقتل وإعدام وذل، لا أحد يمكنه أن يصدق ما كان يجري داخل السجن، مبيناً: “لا أستغرب أن يكون بشار هو مَن قام بقتل أبيه لكي يستلم الرئاسة”.
ويشير إلى أنه ” في أحد المرات التي أخذوني فيها للتحقيق مررنا بجانب نساء، رفعت رأسي قليلاً، شاهدت نساء عاريات معلقات بالحائط ويتم سكب الأسيد عليهم وترتفع أصوات صراخهم، وإلى جانبهن أطفالٌ مربوطون يشاهدون هذه الوحشية أمام أعينهم”.
اللحظات الأخيرة
وقبل إسقاط النظام وفتح باب السجن في الثامن من الشهر الجاري، تم نقل ثلاثة سجناء من الغرفة لإعدامهم، ونادوا على رقمي ورقم شخص آخر، لكي نجهز أنفسنا قائلين لنا أنه “بعد يومين يتم تنفيذ الإعدام بحقكما”.
ويذكر أنه حين تم فتح باب السجن لم نصدق، ظنّنا أنهم قادمون لإعدامنا، طلبوا منا أن نخرج وأخبرونا أن نظام بشار الأسد قد سقط، لم نصدقهم بقيت أنا ورفاقي في مكاننا ولم نتحرك من الخوف.
ويقول نتيجة التعذيب والضرب لأن لغتي العربية ضعيفة تغيرت لهجتي، وكانوا يقومون بإطفاء السجائر على لساني لمنعي من التحدث باللغة الكردية، أصبحت أتكلم العربية حتى لغتي نسيتها من شدة التعذيب”.
ولم أفكر يوماً بأنه قد يأتي يوم وأخرج من هذا السجن، كنت أقول بنفسي إن نهايتي ستكون هنا، خاصة بعد أن نادوا برقمي 125 لأجهز نفسي للإعدام، كانت عيوني على الباب طيلة الوقت والخوف لا يفارقني، كنت بانتظار همسات وخطوات أقدامهم للمجيء وتنفيذ حكم الإعدام.