يشاهد العالم بذهول تسارع الأحداث في سوريا بما يشبه ما كان يشاهده العالم في مدينة الموصل العراقية سنة 2014. التقدم المتسارع لهيئة تحرير الشام والجماعات المسلحة المعارضة المرافقة لها كانت بمثابة الصدمة للكثير من المراقبين للشأن السوري. العملية التي تمددت لوسط سوريا كما كان الحال في مع مدينة تكريت العراقية، واسقطت حلب المدينة الأهم في عموم شمال سوريا عملياً، لا يبدو أنها بعيدة عن التنافس و المصالح المرتبطة بقوى إقليمية عاملة في الشأن السوري. هذه التطورات التي قد تأتي بأيام صعبة جديدة خلال الأيام القادمة يُطفي على السطح ملف قسد والإدارة الذاتية وحقوق الكرد في سوريا من جديد. الملف الذي ينتظر الوصول إلى حل دستوري منشود له يبدو على اصحابه التفكير بعمق بكيفية التعامل مع هول الأحداث الأخيرة التي سترتبط بمصيرها في حيز ما في المرحلة القادمة. التعامل المنشود يحتاج إلى دقة في القرار والتحرك، لا يسمح فيه بالكثير من الجمود أو التهور أو التغالي بالظهور الاستعراضي. لذا على قسد البدء بالسؤال عن الموقع المناسب لها في خارطة الصراع المستحدثة، وعن المنافذ السياسية والعسكرية الممكنة لتأمينها، وتامين المنطقة التي تحكمها، من افخاخ جديدة تُحضّر لها من الأطراف التي تملك الكثير من العدائية ضدها، وفي صدارتهم تركيا التي لطالما طالبت دمشق بفتح الأبواب لها للتطبيع معها بمقابل التعاون ضد قسد أو على الأقل السماح لها بالاعتداء على قسد عبر نافذتها ونافذة روسيا وإيران. كذلك، على قسد تأسيس خطوطها الأمنية ضمن السياق الجديد الذي تعيش فيه إيران أيام قاسية من الضغط الغربي والإسرائيلي عليها، وخاصة أن الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب أصبح على مشارف قيادة بلاده. وهو الذي يعتبر من أشد المعادين لإيران وسياساتها في الشرق الأوسط، وهو الذي يحمل في جعبته الكثير من المفاجأت التي قد تهز المشهد من جديد، ومن أكثر المفاجأت قضية الانسحاب الأمريكي المتوقع من سوريا والعراق التي تأتي على هوى روسيا وتركيا وإيران وفي الضد من مصالح قسد نفسها.
تفسير التقدم الأخير لهيئة تحرير الشام لم يعد هو لب القضية بالنسبة لقوات قسد بل كيفية التعامل معه على أساس تأمين الذات، وتخفيف المخاطر، وتقليل الخسائر. قسد التي قد تجد الكثير من الصعوبة في تأمين منطقة تل رفعت والشهباء، من احتمال هجوم لهيئة تحرير الشام أو الفصائل المرتبطة مباشرة تركيا وبدعم تركي عليها، بعد استتباب الأمور لها في المناطق ذات الكثافة السنية كحلب وحماة أو في حال تسار ع قدرة دمشق من استعادتها سواء بصورة عسكرية بحتة أو من خلال توافقات مع تركيا عبر روسيا وإيران. البدء بالتحضر لكافة السيناريوهات الممكنة هو الخيار الأكثر مقبولية. أو بالأدق الاعتماد على السيناريوهات التي تنبذ الشعور بالطمأنينة الزائدة. لذا، على قسد التواصل الجدي مع القوات الأمريكية العاملة في سوريا لطرح مخاوفها والتنسيق معها لتحييدها عن الصراع الجديد. وإن كانت تركيا تقف بالكامل وراء هذه العملية الصادمة لحكومة دمشق على قسد ان تدرك أن المقايضات الممكنة لترضية تركيا قد تشمل بعض مناطق سيطرتها أو قد تكون مقايضة من النوع الذي يفضل سياسة التهميش السياسي للكُرد في التفاوضات السياسية النهائية حول الحل في سوريا. لذا، على قسد فهم موقف واشنطن من تلك المخاطر الجدية القادمة دون تردد ومحاولة كسب دعمها.
كذلك، قد يكون على قسد البحث عن صيغة ما من التواصل مع موسكو، والطلب منها تحييدها عن الصراع، في مقابل عدم انجرار قسد في الثلث السوري الذي تحكمه لأي عمليات عسكرية ضد الروس وقوات دمشق. كذلك قد يكون هناك ظهور ل اختلالات أمنية وعسكرية في الخط الجنوبي الشرقي لنهر الفرات حيث التحشد المليشاوي الإيراني، وعلى قسد عدم تحمل كلفة العمليات هناك دون ضمانات مديدة لمستقبلها ومواقعها من الشهباء لديريك. الركون إلى التمنيات فيه الكثير من المخاطر التي لا تحتمل المنطقة التي تديرها الإدارة الذاتية كلفتها.
فوق كل هذا وذاك يبقى الخيار الأكثر ديمومة هو الدفع ببدء عملية السلام المطلوبة منذ سنين بين حزب العمال الكردستاني وتركيا عبر واشنطن أو السياق السياسي التركي الداخلي واطرافه هناك. مشروع السلام المفترض عندما يحمل عناصر السلام المطلوبة للأطراف قد تُحييد قسد من الخطر الأساسي الكامن وراء الحدود الشمالية “تركيا”، والذي يبدو أن مساحة البازرات السياسية له بدأت تتوسع لتصل لوسط سوريا. هذا على افتراض ان موسكو وطهران ودمشق سيقبولن بالأمر الواقع في أصعب تقدير ممكن. وهذا بدوره قد يكون سياق بعيد عن الواقع. طبيعة الرد القادم من موسكو وطهران ودمشق سيعيد تشكيل الخرائط التي اخترقت بصورة فاضحة منذ يومين.
لذا، عمليات التقدم الحالية قد تصدفها عمليات تقدم مضادة عند قدرة الأطراف الفاعلة في سوريا ترضية تركيا. وزيارة عراقجي لدمشق وأنقرة فيها الكثير من تلك المقايضات المشبوهة. لذا، التعويل المحلي الذي يسيطر على المشهد الإعلامي والشعبي، والذي حول هيئة تحرير الشام إلى قائد للمعارضة السورية ذات الخلفية السنية، هو تعويل يشوبه الكثير من البعاد عن السياقات المرتبطة بالعلاقات الدولية. كانت الموصل تشهد ذات التفاعلات الشعبية والتصورات المحلية، والقوى المحلية التي لم تدرك آليات التعامل ضمن السياقات السياسية الدولية التقليدية تحولت إلى وقود في المعركة التي قادتها بغداد وأربيل بدعم أمريكي وإيراني حينها في الموصل، والتي كانت كلفتها عالية على المدينة في ما يسمى عملية تحرير الموصل سنة 2017.
الأتراك نفسهم ينتظرون ما قد يتم ترضيتهم به من عروض قادمة من دمشق عبر طهران وموسكو. لذا، فإن الحقيقة المطلقة هنا أن تركيا تحضر نفسها في هذا المضمار. وهو تحضير فيه الكثير من الانتهازية السياسية الدولية التي تحول سوريا ومدنها التاريخية وشعبها المنهك إلى قاعة للمقايضات غير الاخلاقية والبعيدة كل البعد عن القانون الدولي. قسد التي لازالت في حالة استقرار عسكري، ولازال القاطنين في مناطقها يراقبون المشهد السوري بصورة فيها الكثير من الارتياب، لا يجب أن تبقى تشاهد معهم المشهد أو تعتقد أن أكثر ما يمكنها تقديمه في هذا المسار هو المراقبة الحثيثة للأحداث. الحوار مع الأطراف الفاعلة من جهة وشريكة قسد العسكرية من جهة ثانية هو خيار لا بد من البدء به بصورة لا تحتمل انتظار تقبل وصول بعض التعليقات الفضفاضة من تلك الأطراف لها. يجب ان يكون هناك بحث عن مخرجات حقيقية لمثل تلك الحوارات التي لا تقبل المواربة في ظل الصراع السوري المستجد, وفي ظل سقوط عاصمة الشمال السوري بهذه الصورة التراجيدية التي قد تكون مثال مكرر لحقيقة ان الاستبداد الطويل يولّد جماعات متشددة تعتقد وبصورة مشوهة ان الخرق العسكري لجغرافية ما ودون برنامج سياسي واضح هو الانتصار المنشود وهو مضمون رسالة الشعوب التي تخرج للشوارع بحثاً عن الحرية.