حروب إسرائيل في المنطقة: هل قبضت إيران ثمن بيع أذرعها في العواصم الأربع؟

الانسحاب الأميركي من العراق أوجد تربة خصبة وأرض مفتوحة لدخول إيران والسيطرة على مقدرات بلد كان من بين دول المنطقة الأقوى اقتصادياً, ومع طبقة سياسية طامعة بالحكم ومستعدة لتقديم التنازلات بات العراق تحت الهيمنة الكلية لإيران, هذا الأمر فتح الشهية الإيرانية وشهية ولاية الفقيه على مزيد من الاندفاع نحو بلدان أخرى, في لبنان كانت الأرض مهيأة عبر حزب الله الذي خرج من العباءة السورية بعد موت حافظ الأسد وتوريث السلطة لابنه بشار الذي فشل بالتعامل مع الحزب وما كان ممنوعاً على الحزب سابقاً بعدم التواصل مع إيران إلا عبر دمشق أصبح متاحاً بل أصبح النظام في سوريا يحتاج لوساطات من الحزب عند الإيرانيين, مع ثورات الربيع العربي وجدت إيران ضالتها وبدأت بتطبيق ما يٌسمى تصدير الثورة الإيرانية, فحرّكت ميليشيات الحوثي في اليمن للانقلاب على ثورة الشعب اليمني والسيطرة على ما تستطيع من اليمن بدعم إيراني, ودعمت إيران نظام الأسد للبقاء في السلطة ودفعت بعشرات الآلاف من الميليشيات للداخل السوري وحركت معها ميليشيات حزب الله من لبنان والكثير من الميليشيات الولائية من العراق للقتال ضد الشعب السوري الثائر لإبقاء الأسد على كرسي الحكم بعيداً عن تطلعات وإرادة السوريين.
إيران كانت تدرك أهمية الموقع السوري في خارطة المنطقة وفي خارطة الطموح الإيراني, وطريق طهران بغداد بيروت وطريق طهران البحر المتوسط يحتاج بالتأكيد للسيطرة على دمشق, ومع حاجة بشار الأسد للجهود العسكرية الإيرانية بعد الثورة باتت سوريا تحت النفوذ الإيراني.
دخول ميليشيات إيران لسوريا لم يكن ليتم دون موافقة ضمنية على الأقل من الجانب الإسرائيلي والأميركي, ومهمة الحفاظ على نظام الأسد المرغوب فيه من قبل إسرائيل كانت نقطة التقاء وقاسم مشترك بين طهران وتل أبيب, فنظام الأسد وعلى مدار عشرات السنوات ومنذ عام 1974 كان الحامي والحارس لحدود إسرائيل في الجولان, وإسرائيل لا ترغب بحكم جديد مجهول الأهداف, فتلاقت تل أبيب مع إيران على ضرورة المحافظة على نظام الأسد, لكن لإيران أهداف أخرى, وتحت شعار الحفاظ على نظام الأسد بدأت بترسيخ مشروع ولاية الفقيه على كامل المنطقة, وعبر السيطرة على أربع عواصم عربية (صنعاء, بغداد, دمشق, بيروت) باتت طموحات ولاية الفقيه أكبر, فازدادت أحلامها بالعودة لتكون الشرطي الأميركي في المنطقة, تلك المهمة التي خسرتها مع نهاية حكم الشاه في إيران, وعلى اعتبار أن تلك المهمة مناطة الآن بإسرائيل فقط كان لابد لإيران من خلق أوراق ضاغطة على إسرائيل للتنازل عن جزء من تلك المهمة لصالح طهران, فبدأت بتطويق إسرائيل بميلشيات عربية تعمل ضمن أجندة ولاية الفقيه, فـ في غزة تحالفت مع حركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي وباتت غزة تخضع للهيمنة الإيرانية, وفي لبنان هناك حزب الله الذي افتخر زعيمه على الملأ أنه جندي في ولاية الفقيه, وفي سوريا وتحت ضغط الشعب السوري واهتزاز كرسي السلطة, انزاح الأسد ورضخ للمطالب الإيرانية.
الوجود الإيراني وإيران بشكل عام صمتت عنها تل أبيب وواشنطن نظراً للخدمات الكبرى التي تقدمها إيران, والدور الإيراني المشاغب والمهدد للأمن العربي والخليجي خاصة كان مطلوباً من قبل إسرائيل كوسيلة لتنفيذ المشروع الإبراهيمي والإسراع بالتطبيع مع إسرائيل لتأمين الحماية للعرب من إيران, وكذلك تهديد دول الخليج والتحرش فيها كما حصل في الهجوم على مجمع أرامكو النفطي السعودي كان سبباً ليقطف الرئيس الأميركي السابق “ترامب” عقود سلاح وصفقات تفوق قيمتها الـ400 مليار دولار شكلت نقطة انعطاف كبرى وأرباح عائلة لشركات تصنيع السلاح في الولايات المتحدة الأميركية, ولولا الخطر الإيراني ما تحققت لواشنطن تلك المكاسب.
لكن السحر انقلب على الساحر, وإيران المطلوبة إسرائيلياً وأميركياً باتت هاجس مخيف لتل أبيب وواشنطن, بعد أن حرّكت إيران أدواتها في قطاع غزة عبر عملية “طوفان الأقصى” التي هزت إسرائيل وأفقدتها ثوابت طالما تغنت بها تل أبيب, كمعادلة الردع والجيش الإسرائيلي الذي لا يٌقهر, مع تكبدها خسائر بشرية وحوادث هزت إسرائيل وهددت حتى الوجود الإسرائيلي, ومع انطلاق الحرب في غزة حركت إيران أداتها الأخرى (حزب الله) في لبنان تحت شعار “إسناد غزة” فدخل بمناوشات مع الشمال الإسرائيلي, صحيح أنها لم تؤثر بتاتاً على مجريات الحرب في غزة لكنها شكلت هاجساً كبيراً للأمن في إسرائيل, خاصة بعد تشريد آلاف المستوطنين من الشمال الإسرائيلي نتيجة قربهم من الحدود اللبنانية وخاصة في المطلة وكريات شمونة ومستوطنات أخرى في إصبع الجليل.
إسرائيل التي فشلت في حربها عام 2006, بدأت بالتحضير للتخلص من حزب الله منذ ذاك الوقت, وبدأت استخباراتها بجمع المعلومات وتشكيل بنك أهداف كبير لاستخدامه عند الضرورة, فأوجدت الكثير من خلايا العملاء خاصة بعد تدخل حزب الله في سوريا واضطراره للتواصل مع ضباط جيش الأسد واستخباراته وهذا ما أدى إلى انكشافه أمام الإسرائيليين بعد أن سربت استخبارات الأسد (الفاسدة) كل المعلومات عن منظومة اتصال حزب الله ومعلومات أخرى للموساد الإسرائيلي, إضافة لأعمال الاستطلاع والمتابعة والمراقبة التي تبرع بها الاستخبارات الإسرائيلية كونها تمتلك أعلى تقنيات المراقبة والتتبع والتجسس.
رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو المتعب سياساً وجد بالحرب على قطاع غزة متنفساً له لتحقيق أهدافه والبقاء بالسلطة, لكن حسابات السوق لم تطابق الصندوق وكل الشعارات التي طرحها لم ينجح بتنفيذها حتى بعد مرور عام على تلك الحرب التي خسرتها إسرائيل سياساً وأخلاقياً أمام دول العالم, وخاصة المجتمع الغربي الذي تراجع عن القبول الأعمى بكل ما تقوله إسرائيل لدرجة أن الغرب اعتبر تلك الحرب ليست دفاعاً عن النفس بل مجازر بشرية لا يقبلها المجتمع الغربي, الفشل في غزة فتح شهية نتنياهو على الاندفاع شمالاً نحو جنوب لبنان لتصفية حسابات قديمة, وتحقيق أهداف جديدة باتت ملحة وهي التخلص ليس من الأداة الأكبر والأقوى لإيران, بل التخلص من كامل مشروع ولاية الفقيه الذي خنق إسرائيل بالمرحلة الأخيرة, ويبدو أن الغرب كانت له مواقف مشابهة لمواقف نتنياهو.
مع بنك أهداف إسرائيلي عامر, ومع خروقات استخباراتية عميقة في بنية حزب الله, ومع آلة عسكرية إسرائيلية متطورة, انطلقت إسرائيل بحربها على ذراع إيران في لبنان, وكانت ضربة أجهزة اتصال “البيجر” ضربة مؤلمة وعميقة هزت أركان الضاحية الجنوبية في بيروت وقادتها, حيث أخرجت ما بين 4_5 آلاف من عناصر وقيادات الكتلة الصلبة التي ترتكز عليها قوة الحزب وهي “قوة النخبة الرضوان”, حتى أن الضربة طالت السفير الإيراني في بيروت, ثم تلتها عمليات أخرى كان عمادها الخرق الاستخباراتي حيث نفذ الطيران الإسرائيلي ضربات وُصفت بالدقيقة جداً أطاح فيها بمعظم قيادات الحزب وعلى رأسهم القائد العسكري الأعلى فؤاد شكر “بديل عماد مغنية الذي اغتالته إسرائيل في دمشق عام 2008), ومن ثم كانت الضربة التي صعقت الحزب باغتيال أمين عام حزب الله حسن نصر الله ثم لحق به المرشح لخلافته هاشم صفي الدين, إضافة لعشرات القادة الميدانيين, وبذلك استطاعت إسرائيل ضرب منظومة القيادة العسكرية, ومنظومة الاتصال, والكتلة الأساسية في حزب الله, فأفقدت الحزب توازنه وبات التخبط في الضاحية الجنوبية هو سيد الموقف.
في الحرب على جنوب لبنان اعتمدت إسرائيل استخدام الذراع الأقوى المتمثل بالقوى الجوية الإسرائيلية مع استخدام أسلحة ذات دقة عالية اتصفت عملياتها بدقة الإصابة ودقة تحقيق الأهداف التي تخدم خطة الحرب الإسرائيلية المعتمدة.
كان واضحاً أن الخطة العسكرية الإسرائيلية ليست مستعجلة, وليست بوارد الانخراط بعملية اجتياح بري قبل ضرب العمود الفقري لحزب الله, وتجريده من كل نقاط القوة التي يمتلكها, ومن تلك النقاط الأنفاق الضخمة في الجنوب اللبناني وفي البقاع, التي تغنى بها الحزب مؤخراً ونشر لها مقاطع على إعلامه كنوع من الردع لإسرائيل, إضافة إلى إضعاف قدرات الحزب من الترسانة الصاروخية الضخمة التي لطالما تحدث عنها حسن نصرالله وقال أنها تجاوزت الـ150 ألف صاروخ ومن طرازات وأنواع متعددة وبأمدية مختلفة تغطي كامل مساحة إسرائيل.
ميدانياً وبعد حوالي أسبوعين على بدء العمليات البرية في جنوب لبنان, لا يمكن اعتبار ما يحصل على أنه اجتياح بري, بل هي عمليات جس نبض, وتنفيذ مهام استطلاع بالقوة, غايتها الأساسية تجريد حزب الله من بعض مفاجآته, وضرب ترسانته العسكرية عبر الذراع الجوي الإسرائيلي, وتقليل ما أمكن من الخسائر البشرية بالجيش الإسرائيلي عند بدء العملية البرية أثناء اجتياح جنوب لبنان, تلك المهمة التي حددت لها الخطة العملياتيه للجيش الإسرائيلي أن تكون لما بعد الليطاني (30كم عن الحدود اللبنانية الإسرائيلية) ثم وسعتها لاحقاً لتشمل نهر الأولي (60كم عن الحدود اللبنانية الإسرائيلية), وحقيقة الأمر قد يكون دخول بيروت من ضمن الخطة الإسرائيلية.
الحرب الإسرائيلية منذ انطلاقة حرب غزة اعتمدت خطة الاغتيالات كوسيلة مرافقة للحرب وللعلميات الميدانية العسكرية, ولم يخلو أسبوع واحد من عملية اغتيال نفذتها إسرائيل في دمشق أو في بيروت والجنوب اللبناني, وقتل بتلك العمليات العديد من قادة حزب الله وضباط الحرس الثوري الإيراني ومن استخبارات فيلق القدس, وحتى حركة حماس لحقتها الاغتيالات عندما اغتالت إسرائيل نائب رئيس الحركة الشيخ صالح العروري بقلب الضاحية الجنوبية.
كان واضحاً أن إسرائيل تعمل على خطة عسكرية استراتيجية ضخمة ومتكاملة ومدروسة بدقة, تهدف لضرب مشروع ولاية الفقيه وخاصة في غزة ولبنان وسوريا, وأصبح من شبه المؤكد أن الحرب التي بدأت في غزة تكمل الآن في لبنان وسيكون الجنوب السوري وحتى أطراف دمشق على الأقل مسرحاً قادماً لها.
والحروب الإسرائيلية الجارية الآن, إن كان في قطاع غزة أو في الداخل اللبناني, استشعر بخطورتها وانعكاساتها الداخل السوري بكل أطيافه سواءاً كان نظام الأسد في دمشق أو المعارضة في الشمال الغربي أو في مناطق قوات سوريا الديموقراطية.