سرى كانيه.. منذ الاجتياح التركي لم يدق جرس لكنيسة

سامر ياسين – نورث برس

قبل خمس سنوات من هذا التوقيت، وتحديداً في التاسع من شهر تشرين الأول/أكتوبر عام 2019، نزح جان السرياني مع والدته تحت وقع القصف وتحليق الطيران الحربي التركي، من مدينته سري كانيه (رأس العين) أو كما يسميها السريان “رش عينو”.

جان يعقوب، (40 عاماً) من سكان مدينة سري كانيه وهو سرياني، سكنت عائلته المدينة عقب ما وصفها بـ”الإبادة” التركية للمسيحيين في مدينة سيفو التركية عام 1915.

وفي حي الكنائس، كان يعيش (يعقوب) مع والدته بعد وفاة والده، تخرج من كلية الحقوق بجامعة حلب وكان يملك مركز طبي للبصريات وفحص العيون في مدينته قبل التهجير منها إبان الاجتياح التركي.

وتسبب الهجوم بتهجيره مع مئات الآلاف من سكان المدينة وريفها، ولجأ كغيره لمراكز الإيواء ومراكز نزوح مؤقتة على أمل العودة القريبة، ولم يكن يعلم أن ابتعاده عن مدينته سيتجاوز خمس سنوات وربما لسنوات أخرى.

تهجير العوائل المسيحية

قبل الأحداث التي شهدتها المدينة أواخر عام 2012 ، كان يسكن في مدينة سري كانيه ما يقارب 230 عائلة مسيحية من السريان (الكاثوليك والأرثوذوكس)، إضافة إلى بعض العوائل من الأرمن والكلدان.

وكانوا يمارسون طقوسهم وشعائرهم الدينية في ثلاث كنائس في حي يدعى (حي الكنائس)، وفق سيمون جرجس، عضو لجنة مهجري سري كانيه.

ويقول جرجس لنورث برس: “عقب الاشتباكات والأحداث التي شهدتها المدينة منذ عام 2012 وصولاً لعام 2015 عقب هجوم تنظيم داعش على المدينة وريفها، نزح وهاجر أغلب السكان المسيحيين من المدينة”.

ويضيف: “ليتبقى منهم ما يقارب 60 عائلة فقط، ممن عادوا إلى مدينتهم واستمروا بحياتهم الطبيعية قبيل الاجتياح التركي عام 2019”.

ويؤكد “جرجس”, أن ستة أشخاص فقط من الديانة المسيحية يسكنون في منازلهم الآن في المدينة”.

ويسير إلى أنهم باقون هناك بغية الحفاظ على أملاكهم رغم المضايقات والانتهاكات المستمرة بحقهم من قبل الفصائل الموالية لتركيا هناك.

ويستذكر أنه “في السابق كانت أصوات الكنائس الثلاث تصدح بشكل دائم لتعلن أوقات الصلاة والقداس والشعائر الدينية”.

إلى جانب الكنائس، كانت هناك ثلاثة مدارس تتبع لها (مدرسة قطف الزهور للسريان الأرثوذوكس)، و(مدرسة الأمل للسريان الكاثوليك)، و(مدرسة الشهداء للأرمن الأرثوذوكس).

وكانت الكنائس دائماً تعج بالمصلين والمدارس ممتلئة بالطلاب، لكن الآن الوضع مختلف تماماً، وكل شيء متعلق بالديانة المسيحية بات فارغاً تماماً، بحسب “جرجس”.

ويلفت إلى أنه منذ دخول القوات التركية والفصائل الموالية لها عام 2019 إلى المدينة، “لم تمارس أي طقوس أو شعائر دينية في كنائس المدينة، ولم يدق جرس أي كنيسة ليعلن إقامة قداس فيها”.

تغيير ديمغرافي

في ذات السياق، يقول محي الدين عيسو، المدير التنفيذي لرابطة DAR)) لضحايا التهجير القسري، إن “الاحتلال التركي لمدينتي سري كانيه وتل أبيض، تحت مسمى عملية نبع السلام، أدت لإحداث تغيير ديمغرافي كبير في المنطقة، للمسيحيين والأكراد والعرب والجركس والأرمن وكل طوائف المنطقة”.

أما بخصوص المسيحيين في مدينة سري كانيه, يشير “عيسو”، في حديثه لنورث برس، إلى أن “عدد السكان المسيحيين في مدينة سري كانيه كانوا يشكلون 10% من إجمالي عدد السكان، وكانت هناك أحياء كاملة مسيحية في تلك المدينة، وعقب عملية الاجتياح التركي تم تهجير هؤلاء المسيحيين بالأكمل”.

ويضيف أن “تركيا أعادت ما يقارب خمسة أشخاص مسيحيين فقط إلى المدينة، وسمحت لهم بفتح الكنائس في محاولة منها لإرسال رسائل إلى الغرب بأن لا مشكلة لها مع المسيحيين أو الديانات الأخرى، وبأن مشكلتها الوحيدة مع المسلحين الأكراد ولكن هذه كذبة”، على حد تعبيره.

ويشير إلى أن “تركيا فقط تريد تغيير الطبيعة الديمغرافية للمنطقة، وتوطين عوائل المسلحين الموالين لها، تحت ذريعة ومسمى المنطقة الآمنة، ومنع عودة سكانها الأصليين لها”.

ويقول: إن “الفصائل المسلحة الموجودة في مدينة سري كانيه تحمل الطابع الإسلامي المتطرف، وبالتالي هي ترفض الطوائف والديانات الأخرى، وتمنعهم من ممارسة الشعائر الدينية الخاصة بهم, كما تم الاستيلاء على جميع المنازل والعقارات والأراضي الزراعية العائدة لهم من قبل الفصائل المسلحة هناك”.

انعدام الأمان وانتشار الفوضى

يقول جان يعقوب، إنه لم يكن يعلم بأنه لن يستطيع العودة مجدداً إلى مدينته بعد ذلك اليوم، حيث أنه لم يحكم إقفال أبواب محلاته ولم يحضر كيس دواء والدته معه، لأنه كان على يقين تام أن الأمر سينتهي بساعات قليلة وسيعود كل شيء على طبيعته.

ويضيف لنورث برس: “كنت أملك سيارة من نوع (فان)، نزحت بها أنا ووالدتي إلى مدينة الحسكة، دون معرفة وجهتي، وبقينا أن ووالدتي ننام ونأكل ونشرب في هذه السيارة لمدة 7 أيام”.

ويقول: “كنا ننظر للساعة وننتظر خبر انتهاء كل شيء ولحظة العودة للمنزل، قبل انتقالنا للمخيم لمدة عام ونصف ومنه إلى منزل أقيم فيه حتى الآن منحني إياه أحد الأقارب في مدينة الحسكة”.

ومع استمرار سيطرة الجيش التركي والفصائل المسلحة الموالية له على المدينة للسنة الخامسة على التوالي، يرفض “يعقوب” العودة إلى منزله والعيش في مدينته في ظل سيطرة ما وصفهم بـ “الغرباء والمجرمين”.

ويؤكد أنه لا يستطيع تحمل العيش مع عصابات تشتبك بالأسلحة الثقيلة مع بعضها البعض لأجل حمامة أو دجاجة، حسب وصفه.

ويعلق جان يعقوب كلامه على شهادات يسمعها بشكل متكرر من أصدقائه وسكان حيه ممن عادوا إلى المدينة، وبأنهم يعانون بشكل يومي من المضايقات وانعدام الأمان وانتشار الفوضى والقتل والاشتباكات المستمرة.

ويشير إلى أن “هذه الأجواء بعيدة جداً عن أجواء المدينة الجميلة التي عشناها فيها وكبرنا ونحن نعشيها، والسكان الغرباء الموجودين في المدينة ليسوا منا وليسوا من تربيتنا”، حسب تعبيره.

وبحزن شديد ما زال جان يطالب كل من يعنيه الأمر والمجتمع الدولي والعالم بإيجاد حل لهذه المعضلة، وضمان عودته وعودة كل النازحين إلى مدينتهم، لأن النزوح والابتعاد عن الموطن الأصلي حسب وصفه: “إحساس صعب جداً، جعله يبكي بشكل يومي لمدة 6 أشهر مستمرة، لمجرد أنه خرج من منزله قسراً ولا يمكنه العودة إليه”.

تحرير: خلف معو