خمسة أعوام على احتلال رأس العين/سري كانيه وتل أبيض: انتهاكات مستمرة وعدالة غائبة

عزالدين صالح

مع بدء العدوان التركي على منطقتي رأس العين/سري كانيه وتل أبيض/كري سبي، يوم 9 تشرين الأول/أكتوبر 2019، وُعد العالم بأن هذه العملية ستُنشئ “منطقة آمنة”، حيث زعمت “أنقرة” أنّ عمليتها العسكرية المُسمّاة زيّفاً “نبع السلام” ستُعيد السوريين/ات اللاجئين/ات إلى ديارهم/ن وتُعزز الاستقرار في شمال سوريا.

لكن الواقع اليوم مغاير تماماً وبعيد كُل البعد عن تلك الوعود، فالمنطقة التي كانت يوماً ما نموذجاً للتعايش المشترك وتنعم بأمان واستقرار نسبيّان، تحولت إلى بؤرة للفوضى، الاضطهاد، والتهجير القسري المتواصل، في ظل غياب المساءلة واستمرار الإفلات من العقاب.

التهجير المستمر: لماذا لم يعد السكان بعد مرور خمسة أعوام؟

خمسة أعوام مرّت، ولا يزال أكثر من 150 ألفاً من أهالي رأس العين/سري كانيه وتل أبيض مهجرين قسراً، محاصرين بواقع يائس يمنعهم من العودة إلى منازلهم. لماذا؟ لأن ما كان يُفترض أن تكون “منطقة آمنة” أصبحت مسرحاً لانتهاكات وجرائم متواصلة، دونما محاسبة.

تدير القوات التركية المنطقة مع “فصائل المعارضة السورية” المُدعومة منها، وترتكب بشكل ممنهج انتهاكات أقلّها النهب والسلب، وجرائم تشمل الاعتداءات الجسدية، الاعتقالات التعسفية، الابتزاز المالي، والتهديدات المتواصلة التي دفعت الكثيرين من الباقين أو العائدين -وهم قلة- لمغادرة المنطقة مجدداً.

منذ تشرين الأول/أكتوبر 2019، وثقت رابطة “تآزر” مقتل 68 مدنياً في مناطق رأس العين/سري كانيه وتل أبيض، واعتقال ما لا يقل عن 808 آخرين، من بينهم 7 أشخاص فارقوا الحياة تحت التعذيب، كما شهدت هذه المناطق 81 تفجيراً، أودت بحياة 147 مدنياً، وأدت إلى إصابة 320 آخرين، إضافةً إلى نشوب 71 مواجهة مسلحة/اقتتال بين فصائل “الجيش الوطني السوري” قُتل نتيجتها 6 مدنيين وجُرح 45 آخرين.

غياب المساءلة يعزز تفشي الانتهاكات:

أحد الأسباب الرئيسية التي أدّت إلى استمرار وتفاقم الانتهاكات هو غياب المساءلة والإفلات التام من العقاب، فالجماعات المسلحة التي تُدير المنطقة تعرف جيداً أنها لن تُحاسب، فهي تحظى بدعم تركيا السياسي والعسكري، وتفعل ما تفعله أمام أنظار “أنقرة” وبمشاركة قواتها، دون أي خشية من العواقب.

غياب المساءلة يغذي الانتهاكات ويعزز الشعور لدى المجرمين بالإفلات من العقاب، والضحايا هم من يدفعون الثمن من حياتهم وأمنهم، بينما يظل المهجرون في حالة من التيه واليأس، في انتظار يومٍ يلوح فيه الأمل بالعودة إلى ديارهم بشكل آمن وكريم.

التغيير الديموغرافي: تهجير ممنهج في ظل صمت دولي

شهدت المنطقة المحتلة “تغييرات ديموغرافية هائلة” أثرت بشكل كبير على تنوعها العرقي والديني، حيث تمّ تهجير أكثر من 85% من سكان رأس العين/سري كانيه، وأصبح الكُرد أقلية بعد أن تقلص عددهم من حوالي 70,000 إلى 42 شخصاً فقط. أما في تل أبيض، تقلص الوجود الكُردي إلى بضع عائلات بعد أن كانوا يشكلون نحو 30% من السكان. كما تضاءل عدد الأرمن والسريان والايزيديين إلى أفراد معدودين، في حين تأثر الوجود العربي أيضاً بشكل ملحوظ.

هذا التغيير الديموغرافي ليس وليد الصدفة، بل هو جزء من خطة ممنهجة تهدف إلى تغيير التركيبة السكانية للمنطقة، فتركيا لم تكتفِ بتهجير مئات الآلاف من السكان الأصليين، بل قامت بتوطين آلاف العائلات النازحة من مناطق سوريّة أخرى مكانهم، بما في ذلك العشرات من عائلات مقاتلي “داعش”. لم يقتصر الأمر على استبدال السكان فحسب، بل امتد أيضاً إلى تغيير هوية المنطقة وثقافتها.

اللافت في هذه القضية هو صمت المجتمع الدولي، فدول أوروبا والولايات المتحدة لا ترغب في استقبال مزيد من اللاجئين على أراضيها، لذا تدعم ضمنياً خطة تركيا العلنية لتوطين مليون لاجئ سوري في المنطقة المحتلة، وتغض الطرف عن الانتهاكات التي يتعرض لها السكان الأصليون لصالح تسوية قضايا اللاجئين.

كارثة المخيمات: حياة بائسة بلا أفق

ورغم أنّ العدوان التركي كان يهدف بشكل أساسي إلى تقويض الوجود الكُردي في المنطقة، إلا أنّ جميع مكونات المجتمع كانوا ضحايا نتائجه، فالمهجرون يمثلون خليطاً من الكُرد والعرب والأقليات، بما في ذلك الأرمن والسريان والايزيديين والشيشان.

في مخيمات النزوح المنتشرة على أطراف المناطق المحتلة، والتي لم تحظى باعتراف وكالات الأمم المتحدة بعد، يعيش أكثر من 40,000 شخص من المهجرين في ظروف صعبة. خيامهم لا توفر لهم الحماية الكافية من الطقس القاسي، والمياه الملوثة تنشر الأمراض، والرعاية الطبية شبه معدومة. دون أي دعم حقيقي من قبل الوكالات الأممية.

لكن المأساة الحقيقية تكمن في فقدان الأمل. لا يعرف هؤلاء الناس متى، أو حتى إذا ما كان بإمكانهم العودة إلى ديارهم يوماً ما.

حق الضحايا في الانتصاف والعودة:

في خضم كل هذه الفوضى، هناك حق ثابت لا يمكن التخلي عنه: حق المهجرين في العودة إلى ديارهم بأمان وكرامة. لكن هذا لن يكون ممكناً إلا بإنهاء الاحتلال، فلا يمكن تحقيق سلام شامل ومستدام دون معالجة قضية المهجرين/ات والضحايا، إعادة الحقوق لأصحابها، ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم، وضمان عدم تكرارها.

ورغم كل ما مروا به، لم يرفع الضحايا الراية البيضاء، بل قاد العديد من المهجرين/ات جهوداً حثيثة للدفاع عن قضيتهم وإبقائها حية. توثيقهم للانتهاكات التي تعرضوا لها، لم يكن مجرد وسيلة لكشف الحقائق المغيّبة، بل فعل مقاومة في حد ذاته، يُساهم إلى جانب جمع الأدلة والشهادات؛ في مساءلة مرتكبي الجرائم، من أجل تحقيق العدالة المنشودة.

هذا النضال يُعد شعلة أمل، تضيء قلوب المهجرين/ات وسط الظلام الذي يحيط بهم، ويمثل صرخاتهم في وجه الظلم والاضطهاد. ورغم كل التحديات التي يواجهونها، من غياب الدعم الدولي إلى الإحباط الذي يصاحب طول الانتظار، فإن عزيمتهم على استعادة حقوقهم هي أقوى دليل على أن العدالة ليست أمنية بعيدة المنال، بل هدف سام يستحق النضال من أجله.

خمسة أعوام مضت منذ أن بدأت تركيا عدوانها على رأس العين/سري كانيه وتل أبيض، والمأساة لا تزال قائمة. ما وُعد به كـ “منطقة آمنة” لم يكن إلا غطاءً لعملية تهجير قسري، نهب، وتغيير ديموغرافي ممنهج. والآن، لتكن هذه الذكرى الأليمة مناسبة لنرفع أصواتنا مرةً أخرى لنذكر المجتمع الدولي بمسؤولياته، ونعمل معاً بجدية لضمان حقوق الضحايا والمهجرين/ات، ومحاسبة من تسبب في معاناتهم/ن.