تمنيت الموت”.. نازح من سري كانيه يروي مشاهد تعذيب في سجن لفصيل موالٍ لتركيا

دلسوز يوسف – نورث برس

بعد ثمانية أيام من الاجتياح التركي رفقة فصائل مسلحة موالية لها لمدينة سري كانيه (رأس العين) شمال شرقي سوريا، الذي بدأ في التاسع من تشرين الأول/أكتوبر 2019، أراد عبداللطيف عبدالله العودة إلى قريته “الحردانة” غربي المدينة.

بعد انتهاء المعارك في المدينة، كان “عبدالله” يعتقد أن طريق العودة أمر سهل لا سيما أنه لم ينخرط في صفوف أية قوة عسكرية أو مؤسسة مدنية تابعة للإدارة الذاتية، وهي التهمة الرئيسية لكل من أراد العودة.

بيد أن عودته سرعان ما تحولت إلى مأساة مروعة عقب اعتقاله من قبل الفصائل، حيث أمضى 28 يوماً تحت التعذيب داخل سجونها سيئة الصيت، قبل أن يخرج بعدما سلبت منه كل ما يملك وكل ما جناه طوال حياته، على حد وصفه.

ومن أمام خيمته في مخيم “سري كانيه” للنازحين بمدينة الحسكة، يروي “عبدالله” (43 سنة) لنورث برس، تفاصيل تلك الأيام “الأكثر رعباً” في حياته والتي تمنى فيها “الموت”.

وسيطرت القوات التركية والفصائل الموالية لها على مدينتي سري كانيه وتل أبيض بعد شنها هجوماً باسم “نبع السلام” في 9 من تشرين الأول / أكتوبر 2019، والذي تسبب على أثره بنزوح نحو 300 ألف شخص، وفق تقارير حقوقية.

“اختبأت داخل مرحاض”

يقول “عبدالله” وهو أب لستة أطفال، إنه عند بدء العملية العسكرية التركية “كنت في القامشلي واتصلت مع أحد أشقائي لإخراج عائلتي”، ثم انتهى بهم المطاف في منطقة جبل عبدالعزيز بريف الحسكة، بعد التنقل بين عدة قرى خلال الأيام الخمسة الأولى.

ومع حلول نهاية اليوم الثامن وتوقف المعارك، صمم “عبدالله” على العودة رفقة والدته وزوجته وأطفاله الستة إلى قريته، بغية الحفاظ على عدة مهنته في النجارة والتي هي نتاج شقاء حياته لسنوات طويلة، وفق قوله.

ويضيف: “كنا نعتقد أن الفصائل المسلحة هي ذاتها التي كانت تلقب بـالجيش الحر في بداية الأحداث في سوريا، وأنها لن تعترض طريقنا وفي أسوأ الأحوال ندفع لهم الأموال كي لا يسلبوا عدة عملي التي تبلغ قيمتها أكثر من 150 ألف دولار أميركي”.

ولكن في اليوم التالي تلقى عبدالله اتصالاً هاتفياً من أحد سكان المنطقة، أخبره أن الفصائل المسلحة يبحثون عنه مع أحد أولاد عمومته الذي فقد حياته فيما بعد، الأمر الذي دفعه للهرب إلى قرية مجاورة.

ويقول “اختبأت داخل مرحاض أحد المنازل من وقت الظهيرة وحتى ساعات العصر، سمعت أصواتهم يبحثون عني لكن صاحب المنزل أخبرهم أن لا أحد هنا”.

ومع مرور عدة أيام، أراد الخروج من المنطقة إلا أن أقرباءه نصحوه بالبقاء لكي لا يتعرض له أحد، إلا أن الدوريات العسكرية كثرت ليلاً في قريته مما دفعه للاختباء مجدداً في واد بالقرب من القرية حتى الصباح.

لكن ما كان يخشاه عبدالله حدث صباح اليوم التالي عندما عاد إلى المنزل، “أعدت زوجتي الشاي وقبل أن أشربها نادت ابنتي بأنهم جاؤوا”.

ويضيف وهو يصف تلك اللحظات “بدأوا بإطلاق الرصاص كالمطر، أطفالي ماتوا رعباً، دخلوا إلى المنزل وقاموا بوضع سترتي فوق رأسي وأخذوا هاتفي وأخذوني معهم لإحدى القرى المجاورة”.

وبعد الاستفسار عن سبب اعتقاله, طالبوه بدفع مبلغ 600 ألف ليرة وقالوا له “بعد الآن لن يمسكك أحد مجدداً (..) مما اضطررت ودفعت لهم مرة أخرى وأطلقوا سراحي”.

غرفة التعذيب

مع طمأنة المسلحين له بعدم التعرض له مجدداً، إلا أن مخاوف عبدالله من الاعتقال لم تتبدد، فبعد مرور أربعة أيام على الحادثة أخبر عدد من أقربائه بأنه يفكر بالخروج من المنطقة، لكنهم طمأنوه مجدداً بالبقاء وأن جميع ممتلكاته ستتحول هباءً منثورة إن فعل ذلك.

ولكن بعد قرابة ساعة من ذلك الحديث داهمت دورية مسلحة قريته، واقتادوه إلى أحد المقرات، يقول عبدالله: “سلبوا مني سلاحي الذي ورثته من والدي، وقالوا سنأخذك معنا ونعيدك في المساء”.

ويتابع: “أخذوني إلى مركز في مدينة سري كانيه، كان سابقاً مركزاً لقوى الأمن الداخلي، وعند مدخل المركز لم أعد أعلم من أين يأتيني الضرب، واستمروا بضربي حتى دخولي للسجن”.

وبعد رميه في السجن، نقل “عبدالله” إلى غرفة تعذيب “مرعبة”، حسب وصفه، قائلاً: “في الغرفة وضعوني داخل دولاب، وقاموا بضربي إلى أن فقدت الوعي بعدها ألقوا الماء على وجهي، ثم قيدوا يدي من الخلف وبدأوا بضربي على رأسي وصدري لدرجة لم أعد أميز الشخص الذي أمامي”.

ويقول عبدالله أنه بقي لمدة 28 يوماً تحت التعذيب بشتى أنواعه، مبيناً: “يبدؤون بضربي من بعد صلاة العشاء حتى الفجر”.

ويشير إلى أنهم أخبروه بتهمته وهي تبعيته لقوات سوريا الديمقراطية “قسد”, ويضيف: “هي تهمة جاهزة لكل من يريد العودة”.

ويؤكد عبدالله أن هدفهم فقط المال، قائلاً: “هؤلاء لا يريدون الحرية كما يدعون، بل هؤلاء مرتزقة، يحاربون من أجل المال والسرقة فقط”.

“سرقوا كل ما أملك”

بعد 28 يوماً تحت التعذيب، أخرج المسلحون “عبدالله” من السجن ووضعوه على كرسي في بهو السجن، ليرى الشمس للمرة الأولى منذ اعتقاله.

ولإخلاء سبيله، طالبه المسلحون الذي هم عناصر من فصيل “الحمزات”، وفق “عبدالله”، بدفع مبلغ بقيمة “عشرة آلاف دولار أمريكي بعد أن سلبوا سيارته أيضاً”.

وبينما كان المسلحون يفاوضونه بدفع المال ثمن سيارته، كانوا حينها سلبوا جميع أملاكه، دون أن يدرك ذلك، ليطالب بلقاء والدته لمعرفة ما يجري في الخارج.

ويقول الأربعيني الذي غزا الشيب شعره ولحيته: “أخبرتني والدتي أنهم سرقوا 450 غراماً من ذهب زوجتي، كما سلبوا بقرتين و 45 خلية نحل وخمسة رؤوس من الأغنام كنت أملكها بالإضافة لـ 75 مليون ليرة”.

بعد مفاوضات حثيثة خفض المسلحون ثمن السيارة من 10 آلاف دولار إلى 6آلاف.

ويتابع: “أخبرتهم أنني لن أدفع المال إلا بعد خروجي من السجن لكي أومن على حياتي، لكنهم بصموني على أوراق لا أعرف فحواها، بعدها حملوني على بطانية ووضعوني في صندوق سيارة وأخذوني إلى القرية وهناك دفع أولاد عمومتي لهم المبلغ بالإضافة إلى أن سائق السيارة طلب 100 ألف ليرة أجار نقلي من السجن إلى القرية”.

“أحياء بلا أرواح”

بعد بقائه 33 يوماً داخل السجن لحين إطلاق سراحه، يقول عبدالله إنه خرج شخصاً نحيلاً وهزيل البنية بعدما كان يزن 130 كيلو غراماً قبل اعتقاله، “لم أتذوق الطعام طيلة فترة اعتقالي سوى مياه داخل المرحاض”.

وبعد أيام من افتراشه الأرض بسبب التعذيب، نصحه إمام مسجد في تلك المنطقة بالخروج لأن مجموعة أخرى سوف تعتقله وتطالبه بفدية.

ليتصل عبدالله مع أحد أقربائه طالباً سيارة للخروج خلسة، يقول: “حتى زوجتي لم أخبرها من شدة الخوف”.

بعدها يسلك “عبدالله” طرق التهريب دون أن يخرج غرضاً من منزله، وصولاً إلى مركز لإيواء النازحين في الحسكة.

ويعاني عبدالله الذي يعيش حالياً مع عائلته في مخيم بريف الحسكة، فيما يستولي المسلحون على منزله، من أمراض في القلب نتيجة التعذيب الذي تعرض له، حيث أجرى عدة عمليات قلبية لتركيب خمس شبكات وبالونين لقلبه، بينما لا يزال يعاني من آلام الأعصاب في ساقيه.

وعن أصعب لحظات عاشها في السجن، والتي لم يتمالك المعتقل السابق حبس دموعه، يقول “تمنيت الموت عندما أخبروني إن لم تدفع لنا المال سوف نجلب ابنتك ونغتصبها أمامك”.

وبعد أيام، تمر السنة الخامسة على الحادثة، وينهي عبدالله حديثه بنبرة يغلبها الحزن، بالقول “نحن أموات, وأحياء بلا أرواح، فهؤلاء لم يدعوا لنا سبل الحياة (..) لا نريد شيئاً سوى العودة لبيوتنا بأمان”.

تحرير: خلف معو