لم تتأخر إيران أبداً عن إظهار مدى قدرتها البراغماتية على الاستثمار في متغيرات المنطقة، سواءً بالاستفادة من الدول الكبرى كأميركا في العراق وروسيا في سوريا، أو عبر استخدامها ميليشياتها الطائفية لمشروعها التوسعي في المنطقة كزينبيون وفاطميون أو من المواليين عقائدياً لها كحزب الله في لبنان والحوثين في اليمن.
لكنها اليوم تبدي موقفاً مختلفاً إزاء بيادقها المنتشرة على رقعة الشرق الأوسط حيث بدأت بالتخلي عنهم وتركهم لمصيرهم. فها هي وكما ضحت بحماس في غزة تترك حزب الله في جنوب لبنان لمصيره، وتعلن على لسان كبير مفاوضيها أنها على استعداد للتفاوض على ملفها النووي وتطبيق كامل الشروط التي تريدها أميركا والدول المفاوضة! وحزب الله ليس ذراعها الممتد لجنوب لبنان وحسب، بل ذات الحزب صرح مراراً وتكراراً أنه يتبع لجمهورية إيران الإسلامية وولاية الفقيه، وأن مشروعه السياسي هو عقائدي منضبط ضمن مخططاتها وبرعايتها.
وتتضح الصورة أكثر حين تتحول مقولة وحدة الساحات المتمثلة بمحور المقاومة المزعوم ضد إسرائيل، إلى ساحات متفرقة تقف إيران متفرجة على اجتياحها وإنهائها واحدة تلو الأخرى. ويبدو أن هناك أدوار قادمة على أذرعها بسوريا سواء من حيث ميليشياتها أو نظام حكمها القاطن في دمشق، المعلن تبعيته وترابطه العضوي مع جمهورية ولاية الفقيه.
فهل تتخلى إيران عن مشروعها التوسعي بهذه السهولة؟ وهل ستحقق صفقة بملفها النووي وترفع عنها العقوبات الاقتصادية مقابل هذا التخلي؟ وماذا لو لم تحقق ذلك وهي تفقد نقاط قوتها التفاوضية واحدة تلو الأخرى؟
أفصحت حرب غزة منذ أكتوبر الماضي وحرب جنوب لبنان ومصير حزب الله اليوم عن عدة مؤشرات تقول بأن:
- سياسة إيران ليست عقائدية مكتملة الأركان كما تروج لأتباعها. إذ تستطيع التخلي عن حلفائها مقابل مصالحها وفقط، وليذهب البقية للجحيم.
- قدرتها على الاستفادة والانتفاع من تمدد أذرعها بالمنطقة لفرض شروطها التفاوضية بحكم الوجود على الأرض، وبذات القدرة البراغماتية على التراجع لعقد صفقة مقابل التخلي عنهم.
- الاستفادة من مشاريع الدول الكبرى في المنطقة والعمل بظلها.
ما يعني بالضرورة، أن المشروع الإيراني بسياسته البراغماتية المتبدلة هو مشروع يعتمد النفعية المحضة، فيما أن برامجها العقائدية هي مجرد وجبات تقدم للمنتفعين من سياساتها التوسعية، وبالضرورة إمكانية التخلي عنهم أمام مصالحها الذاتية وقدرتها على المناورة فيها لأقصى درجة ممكنة.
لتفصح هذه المؤشرات عن أن إيران تتلاعب بأذرعها الممتدة في عواصم الشرق الأوسط وكأنهم بيادق على رقعة شطرنج لتكسب هي ولتذهب المنطقة وأذرعها للجحيم. فبعد أن عملت على قتل وتهجير العراقيين والسوريين بأذرعها هذه، وعملت على زعزعت الاستقرار اللبناني وبناء دولته الوطنية وعبثها المستمر في اليمن واستثمارها في القضية الفلسطينية عبر حماس، ها هي اليوم تترك حزب الله في جنوب لبنان لجحيم الحرب منفرداً، كما جرى مع حماس في قطاع غزة، وبالضرورة ترسل إشارات واضحة لما قد يحدث في سوريا واليمن مستقبلاً!
عقد اتفاق نووي وفك الحصار والعقوبات الاقتصادية هو مصلحة إيران الحقيقية، ولم يكن تحرير القدس سوى كذبة تاجرت فيها بمشاعر الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين. وهم الشعوب التي ما فتئت تحلم بزوال إسرائيل والوصول لما “بعد حيفا” حسبما كان يوهمهم “نصرالله” زعيم حزب الله.
لتتكشف المعادلة الإيرانية باستفادتها من صناعة حزب الله ودعم حماس وتجهيز عشرات الميليشيات الطائفية من زينبيون وفاطميون وغيرهم، ودخولهم سوريا وارتكابهم أشد أنواع الجرائم بحق الشعب السوري المنتفض ضد نظام حكمهم، والذي لم يفتأ هو أيضاً عن ادعاء المقاومة وتحرير فلسطين. وكأن طريق القدس يمر من القصير وحلب وريف دمشق.
ما يظهر مدى الفعل التخريبي الذي مارسته إيران وتوظيفها الأيديولوجي العقائدي في ثورات الربيع العربي لبتر الوصول لبناء الدول الوطنية في دمشق وصنعاء وبغداد وبيروت. وهذه السياسات المتبدلة هي الأدوات النفعية الفعالة التي استخدمتها عبر أذرعها الطويلة تلك.
في سياق التحليل ذاته يبرز سؤال محوري: إن كان مفهوماً أن إيران تضحي بحزب الله لعقد صفقتها المعلن عنها، لكنها بالمقابل تخسر ورقة تفاوضية هامة تضعف موقفها فيه، فإلى أين ستتجه الأمور في المنطقة؟ فمع أنه من المبكر الحكم على مجريات المرحلة المقبلة، لكن جميع المؤشرات تقول إن إيران تحاول التراجع التكتيكي للتموضع داخلها.
فالحصار الاقتصادي والاتفاقات البينية الروسية والأميركية على كفاية دورها في المنطقة وتعطل تقدمها في تخصيب اليورانيوم، وانكشاف ميليشياتها الممتدة داخل سوريا منذ سنوات أمام ضربات إسرائيل الجوية، جميعها تؤهل إيران للسيناريو الأوضح والأكثر أرجحية وهو التراجع التكتيكي وكسب صفقة مؤقتة مقابل هذه التنازلات. أما في حال لم تحصل على هذه الصفقة فطبول الحرب الإقليمية الكبرى تُقرع بالخفاء!
بالعودة للميليشيات الإيرانية الممتدة في المنطقة منذ غزو العراق في 2003 وتوسعها في الداخل السوري بعد عام 2012، واتضاح دورها عبر الحوثيين في اليمن، وما سبقه من تمركز حزب الله في جنوب لبنان وقربها اللصيق من حماس في غزة. وجميع هذه التحركات كانت مراقبة جيداً من قبل الإدارة الأميركية، والتي أفادت بالتحكم في سياقات المنطقة ومتغيراتها الكبرى. فرغم أن الإدارة الأمريكية أعلنت عبر خارجيتها عام 2014 عن خطر عودة التمدد الجيوسياسي في العالم متمثلاً بالدور الإيراني والروسي في ذلك، لكنها تعاملت وفق قواعد إدارة الأزمات، وجني المصالح التكتيكية، كان بمقدمتها عقدها صفقتي الكيماوي السوري والنووي الإيراني عامي 2013 و2014.
لكنها بالمقابل سمحت لإيران بالتمدد المتسع داخل سوريا مع تراجع أميركي واضح بعدم جديتها بالتعامل مع نظام دمشق بضرورة تغييره وإعطاء الشعب السوري حقه بقيام دولته الحرة والمستقلة دون استبداد عسكري وأمني. فكانت النتيجة أن أصبحت إيران تفاوض كل من أميركا وروسيا أيضاً، اللاعب الثقيل الذي دخل سوريا 2015، على حصصها من الكعكة السورية، وآخرها كانت صفقة الإفراج عن الصحفيين الأمريكيين مقابل الإفراج عن جزء من عقوباتها الاقتصادية.
كل من موسكو وواشنطن قد استفادتا وظيفياً من الدور الإيراني في المنطقة لكنهم أعلنا مراراً بكفاية دورها فيها. الأمر الذي تجلى بوضوح باتفاقي عمان الثلاثي (الروسي الأميركي الأردني) واتفاق القدس (الروسي الأميركي الإسرائيلي) عامي 2017 و2018، والذي يرفض الوجود الإيراني في المحيط الحيوي لكل من الأردن وإسرائيل. لكن إيران لم تستجب لطلباتهما، بل بالعكس تابعت باستثمار ميليشياتها تلك بتصنيع المخدرات والكبتاغون وتصديرها لدول الخليج العربي والعالم وتهديد أمنه. الأمر الذي زاد من ضغوطها التفاوضية على الجميع، وابتزازها في معادلة الشرق الأوسط.
الواضح اليوم قرب نهاية حزب الله كما حماس قبله، وقد يصطف نظام دمشق على الدور، لكن القادم على منطقة الشرق الأوسط برمته لم يحسم أمره كلياً، فثمة ما هو قادم على رقعة الشطرنج هذه! فهل يمكن القول إن الدور الوظيفي لإيران قد انتهى أو شارف على النهاية؟ وهل هو بهذه السهولة؟