حمل حب الرقة في قلبه.. قصّة الطبيب الثمانيني الذي لم يتقاعد يوماً
زانا العلي – الرقة
في شارع القوتلي، أحد أقدم شوارع الرقة شمال سوريا، يظهر الطبيب حسن الشواخ وكأنه قطعة من تاريخ المدينة العريق، مسيراً بخطوات هادئة، لكن مفعمة بالعزم. شعره الأبيض ونظارته السميكة لا تخفيان سمو شخصيته وقوة إرادته. إنه رمز حي للمدينة، وشاهد على تغيراتها، وذاكرة تحتفظ بأحداثها.
ينتمي حسن الشواخ، إلى جيل الثلاثينيات، يعيش في قلب المدينة التي عشقها، حيث تتشابك الأزقة الضيقة وتتردد أصداء الحياة اليومية. يرتدي بذلة سوداء وقميصا أبيض، وهو يجسد الأناقة البسيطة والتواضع، ويمشي كل صباح نحو مركز جمعية البر الخيرية التي يترأسها في شارع المعتز، على بعد خطوات من منزله. في هذا المكان، حيث تتقاطع هموم الناس وآمالهم، يعمل الشواخ على تقديم العون والمساعدة بلا كلل.
البدايات
ولد الشواخ في مدينة الرقة عام 1938. يكشف وجهه المحفور بالتجاعيد عن قصص كفاح وعزيمة لا تلين. إذ بدأ مشواره التعليمي في مدرسة ابتدائية الرشيد، حيث حصل على الشهادة الابتدائية عام 1951. ورغم عدم توفر مدرسة إعدادية في الرقة آنذاك، إلا أنه لم يستسلم، وانتقل إلى حلب لاستكمال دراسته. في ثانوية الغزالي الخاصة ثم ثانوية المأمون، تفتحت آفاقه وازداد شغفه بالتعلم.
بعد نيله الشهادة الثانوية عام 1962، اختار دراسة الحقوق في جامعة حلب، لكن طموحه اتخذ منعطفا آخر بعد ثلاث سنوات. عمل كمعلم وكموظف في بنك أمية، لكنه لم يكن راضيا عن هذه المسارات، فقرر السفر إلى يوغوسلافيا، حيث درس طب الأسنان في جامعة بلغراد. عاد إلى مدينته عام 1978، ليصبح أول من يمارس طب الأسنان في الرقة.
يقول بفخر: “لم أتقاضَ أجرا من معلم أو رياضي في حياتي”، تأكيدا على نبل هدفه ومحبته لمجتمعه.
إنجازات ومواقف خالدة
خلال مسيرته الطويلة، تقلد الشواخ العديد من المناصب الرفيعة. كان ممثلا لنقابة أطباء الأسنان في الرقة والحسكة ودير الزور، وأسهم في تأسيس نادي الرشيد الرياضي والثقافي. لم يقتصر دوره على الطب، بل تعداه إلى العمل الاجتماعي حيث ترأس جمعية الأطباء السكنية، وشارك في المكتب التنفيذي للاتحاد التعاوني السكني.
وفي عام 1977، أصبح رئيسا لفرع رابطة خريجي الدراسات العليا في الرقة، مما فتح له بابا للقاء شخصيات بارزة، كان من بينهم رفعت الأسد شقيق الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد مما جعل العلاقة بينهما تتطور بشكل كبير.
ولم تقتصر اهتمامات الدكتور الشواخ على الطب وحده؛ فقد درس هندسة الكوارث والطوارئ في جامعة ويسكونسن مادسون بالولايات المتحدة، مما أضاف بُعدا آخر لشخصيته المتعددة الجوانب. وفي عام 1980، انضم إلى جمعية الهلال الأحمر، وأصبح عضوا في مجلس إدارتها، ورئيس لجنة الكوارث في سوريا.
يتذكر الشواخ إحدى الاجتماعات التي نظمتها المملكة الأردنية الهاشمية لوفود الحكومات العربية خلال الغزو الأمريكي للعراق، حيث شارك فيها كرئيس لوفد سوريا. يقول: “لم أستطع البقاء صامتا، فاعترضت بشدة على موقف إحدى الدول العربية”، الذي كان برأيه غير إنساني تجاه أطفال العراق. مما دفع الملك عبد الله الثاني بن الحسين إلى لقائه وتهدئته.
الرقة.. ذاكرة من زمن مضى
يحمل الشواخ في قلبه وذاكرته أرشيفا حيا لمدينة الرقة. يحتفظ بصور قديمة تعود لسبعينيات القرن الماضي، يتأملها بعينين ملؤهما الحنين.
“الرقة اليوم تختلف عن الرقة التي عرفتها”، يقولها وهو يقلب الصور بيدين مرتعشتين بفعل الزمن.
يتنقل بين نظارتيه للرؤية القريبة والبعيدة، يطالع وجوها وأماكن أضحت ذكرى. يشير إلى صورة لاجتماع ثقافي في المدينة ويعلق مبتسما: “هذه الرقة كانت تشبه إحدى الدول الأوروبية”، في إشارة إلى الرقي الاجتماعي والثقافي الذي كانت تتمتع به المدينة.
لكن مع تغير الزمن، تغيرت معالم الرقة الاجتماعية والثقافية. الأحداث الدامية التي شهدتها المدينة بعد سيطرة تنظيم “داعش” تركت بصمات لا تمحى. تعرض الدكتور الشواخ للمضايقات والتهديدات، حيث اقتحم عناصر التنظيم منزله بحثا عن الكتب التي كانت تملأ مكتبته، إذ كان يمتلك نحو 2000 كتاب. يقول متذكرا: “ذات مرة، أوقفني عناصر من التنظيم وسألوني لماذا حلقت ذقني، وفي مرة أخرى استفسروا عن وجود الإنترنت في منزلي”.
مع الفوضى التي اجتاحت الرقة في السنوات الأخيرة. بدلاً من الانسحاب، اختار الشواخ أن يكرس حياته للعمل الخيري. اليوم، هو رئيس جمعية البر للخدمات الاجتماعية في الرقة، حيث يبذل جهوده لمساعدة مجتمعه. تعكس أعماله الإنسانية عمق التزامه بالرقة وأهلها، الذين اعتادوا على رؤية وجهه المألوف في أوقات الأزمات.