أليس ما يجري الآن على امتداد المنطقة من أفغانستان وإيران حتى اليمن وأوكرانيا هو حرب عالمية يشارك فيها العالم كله بطريقة أو بأخرى؟ أو ليست هذه الحروب المشتعلة منذ سنوات وآخرها حرب إسرائيل على غزّة ومناوشاتها حتى الآن مع لبنان هي شكل من أشكال الحروب الحديثة غير التقليدية لجهة تقنياتها وآليات تنفيذها بأسلحة تبتعد عن المواجهة المباشرة للجيوش البرية الجوية؟ وهل الحرب التقليدية بين جيوش دول فاعلة هي وحدها المؤشر لحرب عالمية ثالثة؟
ليس بعد، فما يجري الآن هو بروفة مختلطة الممثلين، للوصول إلى النقطة الحاسمة التي قد ينفجر فيها العالم برمّته، والعالم هنا، كما هو واضح هو العالم الأوروآسيوي الذي حدثت فيه الحربين العالميتين السابقتين.
عندما نتصفح المواقع الإلكترونية لكبريات المؤسسات الإعلامية الأميركية والغربية عموماً سنتفاجأ بمدى انتشار فكرة “الحرب العالمية الثالثة” التي سيكون طرفاها الأساسيان هذه المرة روسيا يعاونها الصينيون من تحت الطاولة، في حين أنّ الطرف الثاني سيكون أوروبا والولايات المتحدة ومعهم إسرائيل، وغالباً ما تُصوّر فكرة الحرب في تلك السرديات على أنها صراع الحضارة الغربية مع نقائضها الهمجية من الإسلاموية إلى الأولغاريشية الروسية وصولاً للشيوعية الصينية، حتى لكأنّ هناك قناعة غير معلنة لما ذهب إليه صموئيل هنتنغتون في كتابه “صراع الحضارات”، وهذا ليس مستغرباً في ظل كون الأخير مستشاراً دائماً للإدارات الأميركية المتعاقبة منذ خمسين عاماً على الأقل.
على محركات البحث سنجد عشرات الأسئلة عن توقيت هذه الحرب القادمة وأطرافها وأهدافها وكم ستستمر ومن سينتصر فيها… وهل ستستخدم فيها الأسلحة النووية، وماذا عن اليوم التالي للحرب، والفكرة هنا أنّ غالبية هذه التحليلات “تقبل” حدث الحرب وكأنه واقع سيحدث لا محالة، ولا من معترضين سوى قلّة من اليساريين أو الخُضر أو آخرين في ظل تصاعد اليمين الشعبوي في أوروبا وسيادة المحافظين في الولايات المتحدة.
تتدرج هذه الأسئلة من الناس العاديين إلى أعلى المستويات السياسية والاقتصادية، إلى درجة الشعور بأن بعض البشرية، أي بعض السلطات الغربية من محافظين نافذين بالدرجة الأولى، وصلت فعلاً لمرحلة القناعة بضرورة حصول نوع من التدمير للحضارة البشرية ككل، سواء كان ذلك بتأثير غيبي إيماني بعقاب إلهي، أو كان للدفاع عن الحضارة الغربية المتسيّدة بوجه البرابرة الواقفين على التخوم.
على الجانب الإقليمي الشرق أوسطي، فإن الأسئلة نفسها يتم ترديدها في مختلف الأوساط الشعبية والرسمية، وإذا كان الغرب يستعد للحرب بألف طريقة وطريقة، فإن الوضع في الشرق الأوسط يمكن تسميته بالوضع الرمادي، أي في حالة ترقّب في ظل استمرار المنافسة بين مختلف الأطراف الدولية والإقليمية على توسيع مناطق النفوذ ضمن معادلات غامضة نسبياً حتى ضمن منطق التحالفات نفسها، ويصح ذلك على العراق وسوريا بالدرجة الأولى بحكم كونهما ساحة الصراع الخلفية للصراع الأساسي بين الغرب وروسيا، وبين العرب واسرائيل.
لعقود من الزمن ظلت حرب إقليمية منخفضة الحدة مستمرة في الشرق الأوسط، ولو أنّ الانتهاكات لسيادات دوله العربية بالدرجة الأولى باتت نهجاً غربياً منذ ربع قرن تقريباً، إلا أنّ القضية المركزية، قضية فلسطين، التي هي عقدة العقد في هذه الصراعات، تطلّبت تغييراً في حالتها بعد وضعها لعقود على الرف الأميركي، فكان الهجوم المفاجئ الذي شنته حماس على إسرائيل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول سبباً في استعادة الضوء على هذا الصراع بشكل أكثر وضوحاً.
ما أنتجه هجوم السابع من أكتوبر سريعاً هو أنّ بعضاً من الصراعات الجانبية توحّدت ضمن صراع واحد معلن. “محور المقاومة” الذي يزداد حضوراً في الشارع العربي، رغم كل ما يقال عن سياساته المتشابكة مع الاستراتيجية الإيرانية بشكل أساسي وموقف الأخيرة من السياسات الأميركية التي تحاصرها في كل الملفات على خلفية النقطة الأساس أي الملف النووي الإيراني، سواء وافقنا أو رفضنا ذلك، في وجه محور عربي إسرائيلي أميركي معلن هو الآخر وظاهر في سياسات عزل قطاع غزة والموافقة المعلنة على تصفية حماس.
اليوم، وربما بعد شهور وحتى عام فأكثر، يتوهج الجمر تحت الرماد الشرق أوسطي ببطء، وتختلط الأوراق، وتزداد المطالبات الدولية بوضع حد للغطرسة الإسرائيلية وعدوانيتها المتزايدة لكل محاولات ضبط القوّة المنفلتة من عقالها، وقد يكون صحيحاً بالنسبة للوقت الراهن أنّ أقل الشعوب التي تظاهرت لنصرة غزّة هي الشعوب العربية محكومةً بأنظمتها القمعية وإحساسها الفاقع بالعجز عن تقديم أي شيء، ولكنّ الأثر التراكمي والاتجاهات المتزايدة عالمياً وغربياً بالأساس لعزل إسرائيل لن تكون دون فائدة.
الوصول لمرحلة العزلة رغم محاولات مستميتة غربياً لعدم وصول إسرائيل إلى وضع جنوب إفريقيا السبعينيات، سيكون عاملاً أساسياً في توجه الحكومة الإسرائيلية نحو الحرب مع لبنان، وربما سوريا، وبقدر ما تبدو السيناريوهات في هذه الحالة غامضة، خاصة الموقف الإيراني منها، إلا أنّ الأكيد أنّ الحكومة اليمينية في تل أبيب لن تحصد سوى مزيد من الغضب الدولي والشعبي العربي، وحتى الإسرائيلي الداخلي، ولن يكون انتصارها أكيداً في ظل استعداد كل الأطراف وقبولها فكرة الحرب الإقليمية الواسعة.
هل ستقود هذه الحرب الإقليمية إلى توسيع رقعة الحرب الروسية- الأوكرانية ومشاركة أوروبا فيها؟ بتصورنا هناك ربط بين الجبهتين، الشرق الأوسط وأوكرانيا، ويتعلق بجملة عوامل سياسية واقتصادية لا تندرج فقط ضمن صراع مناطق النفوذ المزدحمة حول العالم بل تمتد إلى الرؤية الأميركية- الغربية ونقيضتها الروسية الصينية، لظهور فاعلين آخرين على الساحة الدولية ينافسون على مناطق الاستثمار والاستعمار، ومن هنا فإنّ يد الجميع في العالم وليس الشرق الأوسط فقط على الزناد.
يمكن هنا القول إنّ من مصلحة واشنطن أن تشتعل القارة الأوروبية في حربها مع روسيا، ففي النهاية ستبقى واشنطن في مقاعد الحرب الخلفية على الغالب أو أنها ستلعب دور اليد الخفية اللاعبة بمهارة على تصعيد النزاع الأوروبي الروسي طالما هي المستفيد من إضعاف الطرفين، وإذا ما تدخّلت الصين، وهذا مستبعد لأسباب مرتبطة بتفكير الصين الحالي وموقعها في المشهد العالمي، فإن الحرب العالمية الثالثة ستكون قد بدأت فعلاً.