فجأة ودون سابق إنذار يعلن الرئيس التركي وبحفل إفطار جماعي في أنقرة عن صيف ساخن تعد له تركيا وقواتها المسلحة في الشمال السوري والعراقي، ويقول إن تأجيل المعركة للصيف كان بناءً على تقارير من غرف العمليات التركية التي لم تستكمل كل خططها ولم تنهِ استعداداتها الكافية لعملية عسكرية ضخمة تحقق فيها أنقرة أهدافها التي ما انفكت تحاول تطبيقها من خلال الإصرار على منطقة عازلة أو آمنة على طول الحدود السورية- التركية وبعمق 30 كم.
كلام الرئيس أردوغان ترافق مع زيارتين مهمتين قام بهما كلاً من رئيس الدبلوماسية التركية هاكان فيدان لبغداد، وفيه حصل على تصريح علني تعتبر فيه بغداد أن حزب العمال الكردستاني “تنظيماً محظوراً”، وأعقب تلك الزيارة تصريح شديد اللهجة للوزير “فيدان” اعتبر فيها وفود خارجية الأسد أدوات بيد الروسي والإيراني، وأن أي وفد سوري لا يستطيع حضور أي اجتماع دون وجودهما بجانبه، بمعنى أن تلك الوفود فاقدة للصلاحيات وفاقدة لاستقلالية القرار، وتلك التصريحات تعكس وأد أي تفكير بلقاء بين أردوغان وبشار الأسد لطالما روّج له البعض على أنه قريب، والإعلام التركي كان يروج أن من فوائد هذا اللقاء بين أردوغان والأسد أنه سيمهد لتحالف عسكري تركي – سوري ضد مناطق سيطرة “قسد”، فهل قررت أنقرة خوض المعركة بمفردها؟
الزيارة الأخرى كانت لرئيس الاستخبارات التركية إبراهيم كالن إلى واشنطن ووصفت الزيارة بالناجحة، وهنا يجب التوقف عند نقطة غاية بالأهمية، هل ما صرح به الرئيس التركي حول عملية عسكرية في شرق شمال سوريا وحديثه عن “صيف ساخن” ستكون بموافقة أميركية لمناطق محددة كما جرى في عملية “نبع السلام”؟ أم يمهد لانسحاب أميركي من شرق سوريا وتفويضاً أمريكياً لتركيا بمناطق شرقي الفرات (كما تروج بعض الأقلام الصحفية) تتعهد فيه أنقرة برعاية المصالح الأميركية إذا ما انسحبت من سوريا، وكان هناك حديث عن انسحاب أمريكي أُعلن عنه سابقاً من قبل الرئيس الأميركي الأسبق “ترامب” ثم تم التراجع عنه تحت ضغط الاستخبارات المركزية الأميركية ووزارة الدفاع “البنتاغون”. لكن التقارب الأخير الحاصل ما بين أنقرة وواشنطن حمل معه الكثير من التوافقات بدءاً بعملية التوسعة الأطلسية وضم فنلندا والسويد لحلف “الناتو”، أو عبر رفع الكونغرس الأميركي للحظر المفروض على صفقة طائرات الإف16 التي تطالب بها أنقرة وأُوقفت أميركياً عقب استلام تركيا لمنظومة الدفاع الجوي إس400 من موسكو، فهل العملية العسكرية التركية التي أعلنها الرئيس أردوغان تأتي ضمن إطار تلك التفاهمات الجديدة؟
الحديث التركي عن عملية عسكرية في شرقي الفرات ليس بجديد لطالما تكرر أكثر من 3 مرات على الأقل منذ عام 2020 حتى الآن، ووصل ببعض مراحل إعلان تلك العمليات لحد القول والتصريح أنهم على بعد ساعات قليلة من انطلاق تلك العمليات لكن بالنهاية كان يخيم السكون وتختفي كل أخبار العمليات والاستعدادات والهجوم عن الإعلام التركي وعن إعلام “الجيش الوطني” الحليف التركي بالداخل السوري.
لكن المفارقة غير المفهومة أن خطط الدول العظمى كالولايات المتحدة لا تُبنى بين ليلة وضحاها ولا تنتهي بجرة قلم، بمعنى أن الأشهر الأخيرة حملت في طياتها مزيداً من التعزيزات العسكرية الضخمة التي وصلت للقواعد الأميركية المتواجدة في شرقي الفرات ولحليفها قوات سوريا الديموقراطية، وبعض المصادر أكدت أنها ليست تعزيزات عسكرية عادية بل ضمت أسلحة نوعية وهذا ما استدعى مزيد من التدريبات المشتركة على تلك الأسلحة تضمنت إجراء بعض المناورات العسكرية بين قسد وقوات من التحالف الدولي جرت على المسرح القتالي في شرق الفرات، وهذا دليل على وجود خطط مستقبلية يتم العمل عليها خاصة أنه لوحظ بالمرحلة الأخيرة وكأن قيادة قسد ومسد تراجعت عن تحفظاتها بشأن رفض القتال ضد ميليشيات إيران ونسب لقسد مؤخراً أكثر من قصف صاروخي طال الضفة الأخرى من نهر الفرات ضد ميليشيات تتبع لإيران.
في قراءة مواقف الدول المنخرطة بالشأن السوري تتذكر تركيا أنها حاولت مراراً وتكراراً إقناع الجانب الروسي برفع الغطاء العسكري الروسي عن مناطق “قسد” في مناطق مطار منغ وتل رفعت و13 قرية محيطة بها وتخضع لسيطرتها شمال حلب، لكن الروس غالباً ما كانوا يرفضون الطلب التركي وحتى عندما كانت مواقف موسكو تلين قليلاً لصالح أنقرة كان الصوت الإيراني يرتفع رافضاً أي عملية عسكرية في شمال حلب ضد “قسد” لأنه يرفض تماماً إحلال فصائل الجيش الوطني بديلاً عن قسد وحصول تماس مع بلدتي نبل والزهراء “الشيعيتين” لأن طهران تفضل بقاء قسد كقوة فاصلة وعازلة عن الجيش الوطني، وتكرر الأمر في مدينة “منبج” التي طالبت تركيا بإعادتها للجيش الوطني فوجدت فيتو متعدد الأوجه، من التحالف الدولي ومن روسيا وحتى من إيران ونظام الأسد.
أما في شرقي الفرات فأيضاً ليس بالأمر السهل أن تتوصل أنقرة لتوافقات حتى لو منحتها واشنطن الضوء الأخضر؛ فهناك قوات بريطانية وفرنسية وألمانية وهناك الجانب الروسي مع بعض الميليشيات الإيرانية في مطار القامشلي، ولا يمكن تجاهل أيضاً المربعات الأمنية لنظام الأسد في الحسكة والقامشلي وغيرها، وبالتالي كيف ستتعامل أنقرة مع كل هؤلاء وكيف ستكون وسيلة الإقناع؟
“المنطقة العازلة” التي تتحدث عنها أنقرة تمتد على طول الحدود السورية التركية وبعمق 30كم، أي أنها تضم كافة المناطق ذات الأغلبية الكردية في سوريا التي تسيطر عليها قسد، وفي مقابل ذلك تبرز عدة نقاط مبهمة:
حتى لو انسحبت أميركا من شرق الفرات وتحت أي عنوان، ماذا عن الأسلحة الثقيلة والمتوسطة الأميركية التي أصبحت بمتناول يد قوات سوريا الديموقراطية، فهل يترك سلاح الناتو بيد “قسد” ليقاتل دولة من حلف الناتو؟ أم تسحبه واشنطن وتترك حليفها “قسد” لقمة سائغة للجيش التركي؟
الأمر الأهم: هناك ما بين 60_70 ألف من معتقلي تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في سجون قسد ماذا عنهم؟ وماذا لو فُتحت بوابات السجون والمعتقلات إذا ما تعرضت المنطقة للخطر أو فقدت قسد سيطرتها الأمنية على تلك المعتقلات؟ من يتحمل المسؤولية وما الذي يمكن أن يفعله هؤلاء الدواعش ليس فقط بأمن تركيا والعراق بل بأمن واستقرار الخليج وحتى أوروبا؟