إيران في الشرق الأوسط: بين الفاعل والدور الوظيفي

منذ بدء حرب غزة، وإعلان كل من إيران والنظام السوري وحزب الله ألّا علاقة لهم بمجرياتها، وثمة سؤال يُطرح: لماذا تتخلى إيران عن حماس؟ وهل ثمة ما يمكن التنبؤ به للمرحلة المقبلة بعد تمدد العمليات العسكرية الإسرائيلية لجنوب لبنان دون رد يذكر من حزب الله؟ وهل ثمة معنى لتوقف العمليات النوعية العسكرية التي بدأتها أميركا ضد الميليشيات الموالية لإيران في العراق وسوريا بدايات هذا الشهر؟ ماذا بين إيران وأميركا؟

ثمة إجابة معممة تقول: يخطئ من يظن أن أميركا وإيران غير متفقتين وبشكل عضوي على تقاسم المنطقة وإدارة اللعبة في الشرق الأوسط. وتحمل الإجابة بين طياتها موضوعين: الأولى رؤية العلاقات الدولية على أنها علاقات عضوية لدرجة المصاهرة، كما روجت لها مفاهيم الاشتراكية أو القومية التي سادت القرن الماضي. يضاف عليها ثانياً قصص “المؤامرة” الذي تقودها القوى الخفية العالمية على المنطقة. وإن كنا لسنا بصدد الخوض في هذا المضمار، بقدر محاولة التحليل السياسي وفق معطيات الواقع ورؤية العلاقات الدولية من منظار المصالح القابلة للتغير بين موقع وآخر حسب الأهداف المرحلية والإستراتيجية وتقاطعها اقتصادياً وسياسياً، وإمكانية تبدلها زمنياً على قاعدة صديق اليوم عدو الأمس، والعكس صحيح. فإن كنا بصدد التركيز على مجريات المنطقة برمتها وخاصة السورية التي قد تشهد تبدلاً في سياقاتها القادمة حسب مستوى ودرجة اللاعبين المتدخلين فيها، حيث يبدو أن كل من إيران وإسرائيل اللاعبين الأساسيين فيها، فإن السيناريست العالمي الأميركي ولاعب الجيوبوليتيك الروسي هو الأقدر على إدارة متغيراتها بشكل أكثر فعالية ما قد يشير لقواعد جديدة لإدارة اللعبة العالمية في المنطقة.

هنا، من المفيد العودة لمجريات الحدث الإيراني في المنطقة، والتي بات لها حضور متمدد في غالب دولها، في لبنان وسوريا والعراق واليمن وحتى في غزة. والتي تظهر مبدئياً النية المبيتة لقادة إيران، وما أطلقوا عليه “الثورة الإسلامية الإيرانية”، الساعية لتصدير قياساتها “الثوروية” لكل دول الجوار والتحكم بقرارها السياسي والاقتصادي وشعارها المطروح “تحرير القدس وفلسطين”، فيما السياق العام يظهر بما لا شك فيه أن إيران ساهمت في تدمير العديد من مدن المنطقة ولم تصل للقدس، وتمددت فيها مستفيدة من التناقضات الدولية التي تعرضت لها، فكان:

-التمدد الإيراني في العراق تحت العين الأميركية مباشرة خاصة منذ العام 2003، غزو العراق ومن ثم احتلاله. فسواء كان ثمة اتفاق مبطن وسري بين طهران وواشنطن ولندن وقتها، أو عبارة عن التقاء المصالح، فقد تم استثمار الغطاء الأميركي الجوّي لتفكيك العراق وتحويله لمستنقع للمحاصصة الطائفية والإجهاز على كامل مقدراته العلمية وثروته الطبيعية. وهذا لا يعني أبداً أن العراق لم يكن يعاني من ديكتاتورية نظام حكمه، بل يعني تماماً أن التمدد الإيراني كان وظيفياً فيه، تم استثماره من قبل واشنطن ولندن واستفادت منه إيران مباشرة.

-منذ عام 2013 مع اتضاح تمدد الميليشيات الإيرانية في سوريا، حذّرت واشنطن عبر خارجيتها من عودة مفاعيل الجيوبوليتيك الدولي لتصبح بيد روسيا وإيران بشكل رئيسي، الأمر الذي حول معادلة سوريا من ثورة شعبية ضد نظام الحكم إلى صراع دموي عنيف. عملت إيران فيه على توسل العنف والعنف المضاد والعودة لكل أشكال القتل الهمجية وتأجيج الصراع الديني، وتغليب لغة القتل والغزوات والترحيل والتهجير بمرجعية شعائر وطقوس تعود لما قبل 1400 عام. والنتيجة بتر “الربيع العربي” والإجهاز عليه في سوريا.

-في نهاية عام 2013 والذي يليه، كان جل اهتمام واشنطن منصباً على التفاوض على ملفي الكيمياوي السوري والنووي الإيراني، والذي تمكنت إيران من إدارته لمصلحة تثبيت حضورها على الساحة السورية برياً.

-منذ عام 2015 باتت موسكو هي المستفيدة من الميليشيات الإيرانية في سوريا التي استفادت بدورها من  الغطاء الجوي الروسي، الأمر الذي أتاح لإيران التمدد في غالبية الجغرافية السورية، خاصة في جنوب دمشق وحلب والبوكمال ودير الزور، وباتت قادرة على ضمان التفاوض على وجودها في خطوط التماس الشمالية بالشراكة مع روسيا وتركيا عبر أستانة منذ 2018 وإلى اليوم.

-في العام الماضي، وبعد المد والجزر في التفاوض على الملف النووي الإيراني، قايضت إيران أميركا على الإفراج عن 10 مليارات دولار من الحصار الاقتصادي عليها مقابل الإفراج عن خمسة صحافيين أميركيين لديها. الأمر الذي أوضح مارثون المفاوضات التي تقوده إيران للضغط على دول العالم بعد اتفاق القدس عام 2018 بين موسكو وواشنطن وبعض عواصم العالم في تل أبيب، والذي أقر بضرورة إخراج أو تحجيم الدور الإيراني في المنطقة. والذي عاد العام الماضي بطريقة ثانية، وكشرط رئيسي من مبادرة الجامعة العربية لعودة النظام السوري لموقعه العربي تحت عنوان فك التحالف العضوي مع إيران.

تسبب تبدل أدوار الرعاية الأميركية الروسية للتمدد الإيراني في المنطقة في الإجهاز على معظم مقومات الشعب السوري ومشروعه الوطني، وقبله العراقي، والإجهاض المستمر لظهور الدولة في لبنان ومثلها اليمن، فهل يمكن القول أن الدور الوظيفي لإيران قد انتهى أو شارف على النهاية؟ وهل هو بهذه السهولة التي يتوقعها البعض من محللي السياسة خاصة أولئك الضالعين في قراءة “أحجار على رقعة الشطرنج”،(عنوان كتاب وليم غاي كار عن الماسونية ودورها في اشعال الحروب العالمية)؟ وهل سيكون الوجود الإيراني في سوريا والعراق كما الأحجار على رقعة الشطرنج؟

تبدي السياسة الإيرانية مرونة حذرة أمام الضغوط الأميركية والطلبات الروسية، والمترافقة مع الضربات الإسرائيلية الجوية لقواعدها داخل سوريا. فإيران تدرك حجم قوتها العسكرية وترسانتها الاستراتيجية من حيث الصواريخ بعيدة المدى، ومدى مساحة الرقعة الجغرافية التي تشغلها، وتهدد أمن الخليج برمته وممرات الطاقة العالمية البحرية خاصة الأوروبية. وترتكز على وجود بري متعدد المساحات تحتاج لجيوش لمحاربتها، وهذا ما فقدته الساحة السورية والعراقية بدايةً. كما أنها تمارس كل مقومات التفاوض العام عسكرياً وسياسياً وتقنياً، ولسان حالها يردد: لسنا أحجار على رقعة الشطرنج تديرها المصالح الدولية وحسب، بل نظام يحتمل كل طرق المناورة، وبذات الوقت يمكنه التضحية الجزئية بأذرعها العسكرية، كما فعلت مع حماس أو ما قد تفعله مع بقية أذرعها في سوريا، والانكفاء الجزئي مرحلياً مقابل المحافظة على رصيدها البشري في جنوب دمشق وغربها، كما فعلت في جنوب لبنان وجنوب العراق وبالاتفاق مع حكوماتها الحالية.

للمصالح الدولية الروسية والأميركية الكلمة الفصل في تحديد سياقات المنطقة، والتي باتت أكثر تعقيداً مما كانت عليه عام 2011. فقد نشهد ساحات متتابعة من الحروب الجزئية، محدودة النتيجة، في كل من جنوب لبنان وجنوب غرب سوريا، وقد نذهب لحرب إقليمية واسعة، ولكن جميعها لا تشير لنظرية كاملة بوجود مؤامرة أو شراكة عضوية، بقدر اشارتها لتبدل الأدوار الوظيفية في طرق التحكم والسيطرة، فيما الخاسر الوحيد فيها هي شعوب الشرق الأوسط ومشاريع دولها الوطنية، تبقى فيه إيران صاحبة الدور الوظيفي والفاعل بآن.