يعيش النظام العالمي أزمة لا تنأى تتفاقم، هي مرحلة انتقالية تتسم بأزمة وصراع بين الدول الكبرى والإقليمية، على النفوذ الجيواستراتيجي والاقتصادي على أرضية أزمة الاقتصاد الرأسمالي العالمي نفسه، بما يحمله ذلك من حروب وعقوبات متبادلة، نتائج هذا الصراع هي التي ستحدد ملامح النظام العالمي الجديد، فالقديم يموت والجديد لم يولد بعد، هي إذاً مرحلة انتقالية على الصعيد العالمي مليئة بالمخاطر.
تحولت منطقتنا إلى بؤرة ملتهبة بالحروب الأشد عنفاً منذ أكثر من خمسة أشهر، حرب إسرائيلية على الشعب الفلسطيني بدعم أميركي وغربي صريح، يواجهه ما يسمى نفسه بمحور المقاومة بدعم إيراني في جنوب لبنان والعراق واليمن وسوريا. في موازة هذا المشهد الدامي تستمر الحرب التركية على مناطق الإدارة الذاتية في شمال وشرقي سوريا.
بذلك تحول المسعى الأميركي سابقاً لتقليص تواجدها واهتمامها بالمنطقة، لتركزها على روسيا والصين، كأكبر تهديدين استراتيجيين لها وخاصة الصين، لتجد الولايات المتحدة نفسها مدفوعة، ولو إلى حين، إلى إعادة اهتمامها بالمنطقة .
كان واضحاً قبل “طوفان الأقصى” في أكتوبر العام الماضي أن واشنطن تعمل على بناء “تحالف” من دول المنطقة يضم دول الخليج والسعودية مع إسرائيل، يقع على عاتقه إدارة نظام إقليمي لصالح أميركا ما قد يضعف بذلك دور كلّاً من إيران وتركيا، أو يخفف من تأثيرهما،وبما يسمح لأمريكا بتقليص حضورها العسكري في المنطقة، ولبناء هكذا تحالف دفعت واشنطن باتفاقات إبراهام وروّجت للتطبيع بين دول الخليج وإسرائيل ودفعت به قدماً. علاوة على ذلك طرحت الولايات المتحدة مشروعاً اقتصادياً منافساً للمشروع الصيني، يمرّ من الهند إلى دول الخليج والسعودية ومنه إلى إسرائيل. لكن عملية 7 أكتوبر والحرب على غزة والحروب المرافقة لها في بقية بلدان المنطقة، أعاقت هذه الترتيبات الأميركية، وكذلك عطّلت مشروع الانسحاب الأميركي وانخراطه العسكري الواسع في منطقتنا.
ولئن كان هذا هو الإطار العام للوضع، فإن من الضروري النظر في الوضع السوري ومآلاته، مع الاعتقاد بأهمية التنويه بعدد من المبادئ، وأولها، أن المقولة الشائعة للمفكر العسكري الألماني كلاوزفيتز: “السياسة هي امتداد للحرب بوسائل مختلفة”، رغم أهميتها، فإنها ليست موضع اتفاق، إذ إن “السياسة هي نوع خاص من أنواع الحرب”. وثانيها، أن تحليل الواقع يجب أن يتم بشكل علمي وبعقل بارد؛ بما فيه من تناقضات وإمكانيات، وليس إخضاعه إلى رغباتنا ومخيالنا، حينها يتحول لأوهام مدمرة. وثالثها، أن الصراعات السياسية كما الاجتماعية منها يحكمها موازين القوى؛ لا مكان فيها للعواطف والاستجداءات، لكن الواقع، في الوقت نفسه، متغير دوماً وغير ثابت والفعل السياسي المبدع هو ذلك القادر على أن يستبق أو يعزز هذا المتغير أو ذاك وفق رؤاه وأهدفه. ورابعها، ما يميز العمل السياسي الجدي، والثوري، هو قدرته على أن يتعامل مع انسداد آفاق هذا الهدف الاستراتيجي أو ذاك، بحيث إذا واجهنا انسداداً في الطريق الرئيسي لتحقيق هدف ما، علينا أن نعرف اتباع طريقٍ جانبي أو فرعي، لمتابعة المسير في نفس الاتجاه لتحقيق الهدف المنشود. وأخيراً، لا ينبغي الاقتناع بوجود حتميات لاسيما في المنعطفات الهامة؛ هنالك دوماً مفترق طرق وعدد، ولو محدود الخيارات، والمآلات تحكمها تلك الخيارات التي أخذتها عملياً القوى الفاعلة، ولم تكن حتمية.
على أساس ما ذُكر أعلاه، لا بد لنا من تذكير، ولو سريعاً، لبعض النقاط العلّام لوضع سوريا والسوريين، إذ ثمة كارثة إنسانية وكارثة معيشية تمس الغالبية العظمى من السوريين، ولو بدرجات متفاوتة في عموم سوريا المقسمة إلى ثلاث مناطق:
المنطقة الأولى، في شمال غربي سوريا يتحكم فيها الاحتلال التركي ومرتزقته إضافة لجبهة النصرة، مع غطاء سياسي يقدمه الائتلاف الذي أصبح مجرد ورقة تافهة بيد النظام التركي. تشمل هذه المنطقة وفق بعض الإحصائيات نحو خمسة ملايين من السوريين يعيشون على مساحة تقدر بنحو عشرة بالمئة من مساحة سوريا، وهي خارجة عن سيطرة نظام الطغمة، ويقوم الاقتصاد المتهالك فيها على الارتباط البنيوي أساساً بالاقتصاد التركي ويرتبط تعامله بالليرة التركية؛ ويتعامل بدرجة أقل مع مناطق النظام ومنطقة الإدارة الذاتية.
المنطقة الثانية، هي شمال شرقي سوريا، التي تديرها الإدارة الذاتية الديمقراطية، ويعيش فيها نحو ثلاثة ملايين سوري، والبعض يقول أربعة ملايين، على مساحة تقارب ستة وعشرون بالمئة من مساحة البلاد؛ تتواجد فيها قوات التحالف الدولي لمحاربة داعش. وبالأخص القوات الأميركية، ويتكرر منذ سنوات حديث عن قرب انسحابها. يقوم اقتصاد هذه المنطقة واقعياً على التعامل التجاري مع إقليم كردستان العراق، والى درجة أقل مع مناطق النظام ومناطق شمال غربي سوريا، ويدور اقتصادها حول الدولار الأميركي. ومقارنة مع المناطق الأخرى فإن الادارة الذاتية، هي الوحيدة التي تطرح مشروعاً تقدمياً للوضع السوري، على الصعد السياسية والاجتماعية والقومية، لكنها تعاني من قلق دائم وحصار شديد عليها ومحاولة عزلها وهجمات من أطراف معادية متعددة أهمها الاحتلال التركي. فيما يعاني التحالف السياسي المفترض به أنه التعبير السياسي عن مشروع الادارة الذاتية الديمقراطي لعموم سوريا، مصاب بوهن عام وقصور ذاتي.
أما المنطقة الثالثة، فهي مناطق سيطرة نظام الطغمة، حيث يعيش في مناطقه ما يقارب أحد عشرة مليون سوري، على مساحة تقدر بنحو أربعة وستون بالمئة من مساحة سوريا. وهي أكبر المناطق سكاناً ومساحة. يقوم اقتصادها المتهالك على الدعم المحدود لحلفاء النظام وبالاخص إيران. وعلى نظام تقنين مقومات الحياة والمعيشة لغالبية السوريين. ومحاولة ضبط الثروات للبرجوازية في نطاق ضيق شديد الصلة بالطغمة الحاكمة. ويعاني من حصار وعقوبات قاسية، لكنها لا تمس حقاً البرجوازية الكبيرة التي ترتبط عضوياً بالنظام، بل يعاني منها غالبية الشعب. تتواجد في مناطقه قوات روسية وايرانية وميليشيات متعددة الجنسيات.
ويقوم اقتصاده أيضاً، رغم انحساره داخلياً، على تعامل تجاري أوسع من بقية المناطق السورية مع بلدان مثل روسيا وايران ولبنان وبعض دول الخليج. وأيضاً، وإن كان على مستوى أقل، مع مناطق شمال غربي وشمال شرقي سوريا. ورغم أن الدولار الأميركي يلعب دوراً مهما في دورة اقتصاده، لكنه إلى جانب عملات أخرى، أقل تأثيراً مما هو عليه في المناطق الأخرى. كما يركز النظام رؤوس الأموال بيدها حصراً، على حساب عدد من كبار رجال الأعمال الذين كانوا يعملون سابقاً بمعيتها. هذا في الوقت الذي يعاني فيه الغالبية الساحقة من السوريين في مناطق النظام من فقر مدقع يزداد تدهوراً. ولشعوره بهشاشته يقوم النظام بسحق أي بوادر لنمو احتجاج شعبي عليه، حيث لا يتردد نظام الطغمة من استخدام اجهزته الأمنية لقمعها في المهد قبل ان تتسع. ربما لعلمه أن القمع الوحشي لاحتجاجات جماهيرية سلمية في مناطقه، كما فعل خلال تاريخه، قد تؤدي في وضعه الراهن إلى مخاطر انهياره الفعلي
على ذلك، يقوم نظام الطغمة بترتيب أدوات حكمه التي تخلخلت خلال العقد الذي تلا الثورة الشعبية من خلال بعض التعديلات في أجهزته الأمنية، وتأسيس “الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية” ومحاولة إعادة إنعاش حزب البعث المحتضر.
في هذا المجال، يُلاحظ مدى ارتباك “سلطات الأمر الواقع” في التعامل مع الاحتجاجات الشعبية وميلها الى تقديم بعض التنازلات لها، سواء تلك التي في مناطق النظام مع الاحتجاجات الشعبية المستمرة في السويداء. وأيضا تلك الحاصلة ضد سلطة “الجولاني” والاحتلال التركي في شمال غرب سوريا وفي إدلب. حيث أوضحت هذه الاحتجاجات الجماهيرية الشعبية السلمية بأنها لا تشكل مجرد حرجاً بل وخطراً جدياً على هذه السلطات.
ما تقدمه الاحتجاجات الجماهيرية السلمية الراهنة، رغم محدوديتها الجغرافية والسياسية حالياً، وأنعزالها الواحدة عن الأخرى. هو درس هام جداً يؤكد أن الحراك الجماهيري السلمي الواسع، المنظم والواعي، هو أفضل أسلحة الجماهير السورية في سبيل استعادة السوريين لحقهم في تقرير مصيرهم بانفسهم، وبناء مستقبل أفضل لهم. وليس التعويل على هذه الدولة أو تلك.