حين يُجادِل الناس في أهمية سوريا ينطلقون غالباً من اعتبارها “مَوطن أقدم أبجدية في التاريخ”. وبينما يبدو هذا السبب موضع خلاف كونه منفصلاً تاريخياً عن واقعٍ حاليٍّ مُزرٍ، فإن النظر لسوريا من خلال حربها الأهلية يُبرزُ حقيقةً مُطعّمة بكوميديا سوداء مَفادها أن هذا البلد قدّم للعالم أبجديةً جديدة تَرسُم بالحروف الأولى “كيف يبيعُ الإنسان خلال الحروب كلّ شيء باسم القضايا؛ من الملعقة والسكين إلى التجارب الشخصية إلى المواقف السياسية”. هكذا تنوعت البضائع مع اتساع السوق إلى درجة بيعت فيها الأوهام أيضاً على يد ناشطين متعددي الجنسيات. ولكي يَحفظ هؤلاء مواقعهم وأدوارهم في الساحة السورية أنتجوا ظاهرةً تَصحُّ تَسميتها “الأمر بالمقاطعة، والنهي عن سوريا”.
تحت هذا العنوان يمكن ملاحظة سلسلة تطول من السلوكيات الشبيهة بأدوار رجال الدين وذهنية الحلال والحرام إنما بغطاء سياسي، لعل آخرها كانت محاولة لإطلاق حملة ضد مسلسلات سورية رمضانية بذريعة أنها تضم “فنانين شبيحة كانوا في ضيافة بشار الأسد”. غير أن استنزاف سوق الناشطية السوري، ونضوب موارده، وضعف الاهتمام به حالَ دون توسع الحملة وجعلَ منها مجرد زوبعة في فنجان.
تنتمي هذه المحاولة إلى دعوات مماثلة في مجالات الرياضة والفن والثقافة اعتادَ البعض على إطلاقها مثل تحذير السوريين من متابعة المنتخب السوري لكرة القدم أو من حضور حفلات مطربين “موالين للنظام” في بلاد المهجر.
من حيث الشكل لا تبدو هذه السلوكيات طارئة على الحرب السورية إثر استعصاء الحلول واستبدال السياسة بالصراخ والردح. كما أن ظاهرة كهذه لا تنفصل عن سياق أشمل متمثل بمقاطعة منتجات أو جهات معينة “نصرةً للحق”، وكل ما يندرج تحت سلوكيات “جهاد القاعِدِين” أو اقتصادات “أضعف الأيمان” المرتكزة على الترند، وتدوير غضب الجموع البشرية عديمة التأثير السياسي في فضاء افتراضي لأطول فترة.
وبالنسبة لقادة الحملات ومطلقيها فهُم غالباً ناشطون مدنيون وحقوقيون مهووسون بالترويج لصورتهم كفاعلين “مستقلين” إلى درجة التطهر من أي شُبهة انتماء مَصلحي أو مادي وكأنهم أولياء صالحون منذورون لإظهار الحق!. ولتبرير أحكامهم الأخلاقية تجاه نشاط فني أو رياضي سوري يتسلح هؤلاء بفكرة “الإجرام غير المسبوق للنظام وضرورة الوفاء لدماء الضحايا وعذابات المعتقلين”. وفي حال محاججة الناشطين حول جدوى المقاطعة أو التحريم يتبعون غالباً أحد مسارين: سرد تاريخي يستعرض جرائم النظام ويصنع من ضحاياه قميص عثمان، أو هجوم شخصي يلقون به تعويذتهم السحرية على المشكّك بهم فيصفونه بكلمة “شبيح”.
قد يكون استخدام هذه الكلمة تحديداً مدهشاً في الحالة السورية نظراً لاقتطاعها من سياقها العسكري، وإمكانية توظيفها في جميع المحافل لإظهار تمايز عن “سوريا النظام” وهو ما كان كافياً في حالات عديدة بنظر ممولي الميليشيات ومانحي الجوائز الأدبية ليصرفوا فواتيرهم على معارضين بالإسم.
لكنّ الأكثر إثارة للدهشة هو حقيقة أن المنطقة لم تعرف مثيلاً لناشطي التحريم السوريين. ففي المثال العراقي لم يَدعُ معارضو نظام صدام حسين لتجريم الاستماع لأغاني مطربين محسوبين عليه بعد سقوطه. وفي المثال اللبناني لم تؤدّ الحرب الأهلية إلى منع مضمون ثقافي أو فني من قبل فريق سياسي أو طائفي بحجة أنه “ملطخ بالدماء”. بل إن علاقات الزعماء والناس فيما بينهم بقيت محكومة بدبلوماسية المصالح وتقاطعاتها.
بالمِثل يُفترض القول أن الفنانين أو الرياضيين المجتمعين ببشار الأسد يَخدمون مصالحهم وشبكات علاقاتهم، ليكون الحُكم على سلوكهم مَوقِفاً لا يتطلب الامتناع عن المشاهدة إلا بمنطق شيخ يريد ضمان السيطرة على الناس عبر إشعارهم بالذنب وبالحرمان، أو منطق بائع يسعى لتوجيه التقييمات السلبية نحو مُنتجات منافسيه. وإذا كان المبرر هو اعتبار فنان أو رياضي مُخبراً للنظام، فما علاقة ذلك بمتابعة مسلسل أو مباراة؟ وهل يجب مقاطعة الدراما التركية والتكنولوجيا الأميركية وفرق كرة القدم الأوروبية إذا بات لهذه البلدان مخبروها المحسوبون على الثورة؟
إننا إذاً أمام عجائب الحرب السورية وما تتطلبه من تفسير بديهيات تحرسها فزّاعات أخلاقية. وبالتوازي يُفيد أيضاً ربط الظاهرة بإطار أوسع لفهمها، فالخطاب الناشطي الثوري هو أولاً وأخيراً وليد علاقة ما مع منظمات غير حكومية جعلت من سوريا مختبراً لتجاربها. وليست هذه الجهات سوى امتداد لمنظومة عالمية عنوانها “الإن جي أوز” القضياتي الذي نزلَ بفكرة التغيير السياسي من جنّة الحراك المجتمعي المنظم إلى أرض الاكتفاء بالفضح والتلطيخ، وبَوح الذات المتألمة، وقياس الفعل التغييري بمستوى العنف بدل المقاصد والنتائج. تعكس كل تلك الجوانب انحطاط فكر اليسار عموماً وفق منطلقات مابعد حداثية، لتتلاقى قوى مختلفة ميليشيوية ومدنية على تصدر مشهد “النضال” بعد تمييع مفاهيم كـ “السياسة” و”القانون” لصالح مفهوم “عدالة” تتأرجح بين التعبير بالصراخ وبين الثأر. وعليه يصبح العمل النضالي الناشطي أقرب إلى مطاردة الساحرات في العصور الوسطى الأوروبية بهدف معاقبتهن بشبهة “قيامهن بالاتصال بالشياطين”. ورغم اختلاف هوية مطاردي السحر وراصدي الأفعال “التشبيحية” بمرور الزمن فإن ما يَجمع بينهم هو حالة أقرب لتطهير الفضاء العام من الدنَس، وادعاؤهم الزهد بالمكاسب وعدم تمثيل أي سلطة. وحين يَصِل الأمر اليوم إلى دعوات لمقاطعة دراما أو رياضة أو فن سوري فالأجدى البدء بسؤال الناشطين عن موقِعهم وعن أهدافهم من الحملة. ولِمَ لا سُؤالِهم كذلك: “أين ذهبَ الدعم المُقدَم لسنوات لإنتاج بدائل ثورية سوريّة في جميع المجالات؟ تساؤلات تعود بالظواهر إلى الأبجديات توفيراً لجدل بيزنطي لا ينتهي من قبيل “ما هو جنس الملائكة، أو “ما تعريف الثوار والشبيحة”.