لطالما لجأ أصحاب الصور المأخوذة بالأسود والأبيض، إلى التعليق على صورهم على أنها صور من الزمن الجميل. كنت أربط هذا الجمال الذي يتحدث عنه هؤلاء بظاهرة الحنين إلى الماضي، وبتلك المسحة الجمالية التي تسيطر على أحداث مرّت عليها عقود من الزمن و باتت جزءاً من الذاكرة. إلى أن تقدمت في العمر قليلاً وحدث ما حدث في سوريا من خراب ودمار ودماء ومنافٍ ومقابر وذبح وتشرد، فبت أسمع الجملة نفسها والتغني بـ”الزمن الجميل” من بعض أبناء جيلي الذين ولدوا وعاشوا وكبروا في ظل نظام حزب واحد مستبد، ومن ورائه رجل واحد، يتحكم في كل مفاصل البلاد، وله القول الفصل في أحوال وأقدار العباد. وكلما صادفت جملة الزمن الجميل التي تتناول هذه الحقبة التي لا يعرف جيلي غيرها من الاستبداد وخنق الحريات، كنت أحتار أمامها وأعصر ذاكرتي بحثاً عن حدث جميل يمكن له أن يعطي صفة الجمال لهذه الحقبة. غالباً ما كنت أفشل في ذلك، إلا فيما ندر. وفي هذا المنحى سأتطرق إلى ظاهرتين عايشتاهما عن قرب، إحداها تعود إلى زمن الطفولة وهي ظاهرة الإقبال الشديد على تعلم اللغة الكردية سراً. والثانية تعود إلى زمن الشباب وهي ظاهرة الملتقيات الأدبية في جامعة حلب.
الإقبال على تعلم اللغة الكردية في زمن الاستبداد
كانت هذه الظاهرة تحظى بإقبال شديد في البيوت سراً، منتشرة بشكل كبير في عامودا حيث ولدت وكبرت. وكنت أحد الأطفال الذين استفادوا من هذه الفرصة رغم تعلمي الأبجدية الكردية على يد أخي في البيت، إلا أنني تلقيت دروس قواعد اللغة الكردية في بيت آخر. وكان لا يلبث أن يتحول من يتعلم في هذه الدورات اللغوية السرية إلى معلم للغة، ليعلّم غيره الأبجدية الكردية. وهكذا كانت تتتالى الحلقات لتصبح سلسلة طويلة من الدورات التعليمية التي تشهد إقبالاً لا نظير له بين الأطفال واليافعين من الشباب المندفعين المتحمسين لتعلم لغتهم الممنوعة رغماً عن قوانين الحظر التي فرضتها سلطة الاستبداد طوال عقود طويلة. وعلى صعيد الأمسيات الأدبية الكردية كانت تعقد تحت الأرض في غرف القبو الواسعة أو في بيوت عادية بعد أن يتوافد العشرات إلى حضور هذه الأمسيات بشكل فردي وتجنب لفت النظر بالتوجه إلى مكان انعقاد الأمسية الذي كان يجب أن يبقى سرياً خوفاً من المداهمات الأمنية المفاجئة ومن الاعتقال. ولازلت أتذكر الحماس الشديد لدى الناس لحضور هذه الأمسيات الثقافية السرية رغم الخطر المحدق بهم من قبل نظام الاستبداد الذي كان يحاول قدر استطاعته أن لا يسمح لذبابة بالطيران دون إذن أو ترخيص منه.
الملتقيات الأدبية في جامعة حلب
بدأت هذه الملتقيات في جامعة حلب ابتداءً من أواخر ثمانينيات القرن المنصرم وحتى نهاية التسعينيات منه. لم يكن الوسط الجامعي استثناءً من الهيمنة المطلقة لسلطة البعث على جميع مفاصل الحياة في سوريا، حيث الجناح الطلابي للسلطة الأمنية المطلقة ومن خلال اتحاد الطلبة يتحكم بكل صغيرة وكبيرة في الجامعة ومنها الملتقيات الأدبية التي كانت تعقد بشكل رسمي تحت إشرافهم. ومع ذلك شهدت قاعة الملتقى الأدبي كل سنة إقبالاً شديداً وحضوراً كثيفاً من قبل الطلبة الموزعين على مختلف الكليات والمعاهد. في تلك السنوات تحوّل الملتقى الأدبي إلى ملتقى يحضره آلاف الطلبة وأصبح في وقت قصير ملتقى سنوياً ينتظره الكثيرون من محبي الأدب. في حين تحول بعض المشاركين فيه إلى كتاب معروفين لازالوا مستمرين في الكتابة.
وابتداء من عام 2012، بعد عام من بدء ما يسميه نصف السوريين “ثورة” ويسميه النصف الآخر “أزمة”، بدأت رحلة التشرد السورية التي شهدت الذروة بالنسبة لألمانيا في عامي 2014-2015، حين دخل ما يقارب المليون سوري الأراضي الألمانية دفعة واحدة. ومع الزمن استقرّ هؤلاء في ألمانيا وتشكلت جالية سورية بقوميتيها الرئيسيتين، الكردية و العربية، والتي وجدت نفسها أمام تحديات كبيرة منها وجودية. ومن خلال تتبع التغييرات التي طرأت على أناس عاشوا سنوات طويلة في ظل الاستبداد، واستقروا فيما بعد في ظل نظام ديمقراطي لبلاد تسود فيها القوانين والمساواة في الحقوق والواجبات وتكافؤ الفرص. من المفروض ولدى تناولنا لموضوع الظاهرة الأولى، حق تعليم اللغة الكردية، وجدنا انطلاق مظاهرات في بعض المدن الكردية احتجاجاً على فرض الإدارة الذاتية حق تعلم اللغة الأم في المدارس والامتناع عن إرسال أولادهم إلى المدارس الكردية بحجة عدم وجود اعتراف بمناهج الإدارة الذاتية، لا من قبل النظام ولا على صعيد العالم. في حين وفي قلب أوربا الديمقراطية يمتنعون عن إرسال أولادهم إلى دروس اللغة الأم-الكردية رغم أنها متاحة للجميع. وبخصوص الظاهرة الثانية نجد خفوتاً في الصوت وضعفاً كبيراً في الإقبال على الأمسيات الأدبية. ونجد نفس الشخص الذي كان يحضر بحماس شديد الأمسيات السرية في الوطن، لا يكلف نفسه بحضور أمسية أدبية تعقد في المدينة نفسها التي يسكن فيها. ويتكرر الأمر نفسه بالنسبة لمعارض الكتب ولجميع الفعاليات الثقافية.
بمثابة الختام
يعتقد المرء للوهلة الأولى بأن الانتقال من العيش في ظل نظام استبدادي إلى العيش في ظل نظام ديمقراطي سيدفع المرء إلى الإقدام على تعويض كل ما فاته من مصادرة الحريات وكم الأفواه والتمتع بالحقوق والقيام بالواجبات. إلا أننا نجد العكس، حيث ينكفئ المرء على نفسه غارقاً في وحدانيته وتائهاً عن كل ما يدور حوله من أحداث وفعاليات ثقافية. وإذا ما لجأنا إلى المقارنة، نجد أنه يمكننا التحدث عن زمن الاستبداد على أنه “زمن جميل” بالمقارنة مع الزمن الحالي الذي يستطيع فيه المرء القيام بكل ما هو جميل لأنه متاح للجميع ولكنه ولسبب من الأسباب يمتنع عن الإقدام على ذلك. والسؤال الأخير الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو هل يمكننا اتهام الاستبداد لأنه هو نفسه من يساهم في إنتاج مثل هذه النماذج، أم أنه يتوجب علينا فعلاً مدح الاستبداد والتحسّر على زمنه الجميل الذي مضى إلى غير رجعة؟