مضى ثلاثة عشر عاماً على … ماذا؟
لو سألنا عيّنةً عشوائية من سوريين وسوريات من جغرافيات مختلفة على امتداد ما كان يوماً دولةً واحدة تسمّى سوريا عما حدث في آذار العام 2011، وما بعده حتى اليوم، لحصلنا على الأقل على عشرة أجوبة مختلفة ومتناقضة في تفسير الحدث، وكلّ فرد منهم/ن يمتلك في جوابه أو جوابها ـ حجةً يظنها حجةً مطلقة الصلاحية، أو بلغة أخرى حقيقة مطلقة، وهذا الكل المتناقض في جوابه على السؤال السابق، متفق لدرجة التطابق، على الأرجح، أنّ سوريا العام 2024 لم تكن حلمه في ذلك الخامس أو السابع عشر من آذار، وأنّ ما آلت إليه الأوضاع السورية بمختلف جوانبها لم يكن في الحسبان ولا في الرغبة أو أكثر اﻷمنيات تشاؤماً.
الاتفاق على سردية واحدة ﻷي حدث بهذا الحجم أمر مستبعد، حتى ضمن الخندق الواحد، وهذا منطقي ومتوقع، آخذين بالاعتبار أن عقدة الفصل في الاتفاق على سردية واحدة في الشأن السياسي أو العام (وهي نادراً ما تحدث) تتغير مع الوقت، وتكاد تخرج من صورتها الأولى إلى صورة أحدث لا تمتلك من بهاء الصورة الأولى سوى القليل، وفي حالتنا هناك كثير من المياه عبرت تحت الجسر السوري كثير منها مياه عكرة غير نظيفة.
عقدة الفصل في الاتفاق على سردية واحدة، أو لنقل سردية فيها عناصر اتفاق أكثر منها عناصر افتراق، تجمع موقفين رئيسيين، الأول: الموقف السياسي العمومي للسوريين، خارج نخبهم، من النظام الحاكم في سوريا بعد أكثر من عقد على انتقال السلطة من الأسد الأب إلى الأسد الابن بمباركة غربية وعربية. فحتى العام 2011 لم تلحظ تغيرات في المجال العام السوري – السياسي والاقتصادي والاجتماعي – ولم يكن هناك حياة عمومية خارج ثنائية المراقبة والمعاقبة السلطوية، هذا عدا غياب الحياة السياسية الحقيقية فلم تستعد المعارضة ولو جزءاً من حضورها المغيّب في البلاد منذ العام 1963، وهو ما أفرز جميعه، أشدّ أنواع اللامبالاة واللا انتماء في نواحي البلاد ومؤسساتها، كما أفرز فراغات واسعة في رؤوس السوريين ملأتها صور التطرف المتاحة في الإقليم وفي الذاكرة والتاريخ، وبقدر ما كانت “داعش” اشتغالاً استخباراتياً دولياً بقدر ما كان لها حواضن محلية لا يسعنا إنكارها أبداً حتى لو حذفنا المال والارتزاق من المشهد.
الموقف الثاني يتعلق بالاصطفافات السياسية اﻹقليمية وصراع مشاريعها بين طهران وأنقرة وما فوقهما من صراع روسي – أميركي أو غربي – شرقي بضمنه الصين، في الشرق الأوسط، بغياب واضح ﻷي مشروع عربي أو سوريّ أو مشرقي، وهذه الاصطفافات جرفت معها السوريين جميعهم بفعل قوى متجذرة في المخيال الجمعي السوري، دينية أو قومية أو طائفية وقليل منها سياسية، وأوضحت فشلاً ذريعاً للنظام السياسي منذ ما بعد الاستقلال عن الانتداب في خلق “الهوية الوطنية السورية الجامعة” حول رؤى مشتركة تكرّس فكرة “الوطن” العملية بما هو حاضنٌ للهويات الأولية إلى جوار هوية ثانية أو عاشرة اسمها الهوية السورية تُعاش في النشيد الوطني وفي الشارع والمتحف والمدرسة.
إنّ كثيراً من المعطيات حول تفسير ما جرى في سوريا عقب الربيع العربي تغيّرت خلال العقد الفائت، وكثير من هذه المعطيات، القديمة والجديدة منها، لم تكن متاحة للاطلاع عليها، وربما لو كانت كذلك، لكان هناك مواقف مختلفة من الحدث أقلّ انفكاكاً عن سردية “الوطن” أو “الدولة” (لا النظام بالتأكيد)، والجميع السوري يذكر بحرقة شديدة حديث “حمد بن جاسم” رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري السابق بعد ست سنوات على بدء الحدث السوري حين قال بوضوح أنّ “الدعم العسكري الذي قدمته بلاده للجماعات المسلحة في سوريا، وكل شيء أرسل وزّع عن طريق القوات الأمريكية والأتراك والسعوديين” وما كان مزعجاً أكثر قوله الذي بات شهيراً: “إحنا تهاوشنا على الصيدة، وفلتت الصيدة وإحنا قاعدين نتهاوش عليها”.
تهاوش الكل السوري واﻹقليمي والدولي على الطريدة السورية، وفي غضون سنوات قليلة، تغيّرت البلاد والعباد، وتفرّق السوريون في أصقاع الأرض حاملين صلبانهم معهم جوعاً وتشريداً ونزوحاً بما كان لا يتخيله عقل سوريّ العام 2011، هذا عدا عن استباحة البلاد قصفاً وقتلاً ومعارك في غالبها لا ناقة للسوريين فيها ولا حتى دجاجة. ولكن هذا كله لا يلغي أبداً أن كثيراً من هذه الأوجاع التي عاشها السوريون الأفراد، يتحمّل وزرها سوريون آخرون.
إنّ من الصحيح والحقيقي ـ بقطعيةٍ قد لا يتحملها النقاش السياسي عادةً ـ أنّ هناك كثيرٌ من المواقف التي أخذها الفرقاء المؤثرون ـ تابعون أو مستقلون إذا كان هناك أحد منهم ـ كانت مستعجلة وقاتلة ﻷي أمل محتمل في التغيير التدريجي أو الطويل الأمد، وقسم كبير من هذه المواقف دعم سردية النظام في أنّ ما يجري أقرب للمؤامرة، وتسبب هذا التناقض بالتالي بكوارث للسوريين العاديين، بطريقة لم يتوقعها أسوأهم، سواء بدأنا مع تجربة “اﻹئتلاف الوطني السوري” المعارض الذي رعته فرنسا وتركيا وموّلته قطر، وكان خلطة إقليمية استخباراتية لا سورية بالمعنى الحقيقي لكلمة “سوريّة”، أو انتهينا بما فعلته دمشق في علاقتها اﻹنكارية مع السوريين جميعاً، وهو الفعل العالقُ حتى الآن عند نظرية المؤامرة الكونية المستمرة حتى اليوم وآخر بنودها قانون الكونغرس الأميركي منع التطبيع مع “نظام الأسد” وبإلغاء مستمر لكل أحلام السوريين وحقهم في التغيير السلمي والديمقراطي.
هذا الموقف الذي يرى في كلا جانبي الصراع خاطئاً، هو اليوم بتصورنا الموقف الغالبُ بين السوريين، سمّوه سابقاً موقفاً رمادياً، ونسميه اليوم الموقف اليائس المنقطع عن أي أمل في حدوث معجزةً تنهض بالبلاد والعباد في ظل احتمال دائم لاشتعال ما تبقى من الاخضرار في هذه المساحة الجغرافية الصغيرة، نقول هذا، وندرك أنّ هناك بقايا كثيرة من المتمترسين وراء تلك الحجج القطعية بأنّ سوريا تعرّضت لمؤامرة، وهذا صحيح، أو كانت بحاجة إلى اختراق نوعي لسكونها البعثي الطويل اﻷمد، وهذا صحيح بالنسبة لنا أيضاً، ولكن ما ليس صحيحاً أن يتنكب كلّ سوري نصيراً يقاتل به سوريّ آخر تنكّب نصيراً آخراً، وإن استمرت هذه الحالة في الاستناد إلى الغزاة فإننا سنصل يوماً إلى بلد فارغ من كل شيء إلا من بضعة قصور ملكية متصارعة على نقطة ماء.