لماذا هذا الإصرار الأميركي على معاقبة نظام الأسد؟

أقر مجلس النواب الأميركي، في الخامس عشر من شباط/فبراير الماضي، ما بات يعرف بقانون “مناهضة التطبيع مع نظام الأسد” بأغلبية 389 نائباً في حين صوت ضده 32 نائباً. ومن المعلوم أن مشروع هذا القانون كان قد تم تقديمه لمجلس النواب في عام 2023، بغرض منع بعض الدول العربية وغيرها من الدول من التطبيع مع نظام الأسد. من الناحية الإجرائية يعد القانون تعديلاً لكثير من مواد قانون “حماية المدنيين” المعروف بـ”قانون قيصر” والذي تم إقراره في عام 2019 ودخل حيز التنفيذ في عام 2020.

قانون قيصر، ومن ثم قانون حفار القبور، والقانون الجديد لمناهضة التطبيع، ثلاث قوانين تصدر عن الكونغرس الأميركي ضد نظام الأسد خلال السنوات الخمس الماضية، والسؤال: لماذا هذا الإصرار الأميركي على معاقبة نظام الأسد؟

من المعلوم أن العقوبات لوحدها لم تسقط نظاماً منذ أن استخدمت كأداة في السياسة، بل ولم تدفع أي نظام لتغيير سلوكه، ولن يشذ عن ذلك النظام السوري. وكما أن “قانون قيصر” لم يحُل دون انفتاح العديد من الدول العربية على النظام السوري وتطبيع العلاقات معه، ولم يمنع تركيا أيضاً من إعلان استعدادها للمصالحة معه، وإجرائها للقاءات عديدة مع المسؤولين السوريين، وكما أن قانون “حفار القبور” لم يؤدي إلى محاكمة أي مسؤول سوري، فإن القانون الجديد رغم تشدده في فرض العقوبات ضد كل من يطبع مع النظام السوري، فإنه كسابقيه لن يكون فعّالاً تجاه النظام.

إذاً ماذا تريد أميركا حقيقة من النظام؟ خصوصاً بعد أن صار منضبطاً إلى حد بعيد، منكفئاً على ذاته؛ فالنظام السوري لم يعد يشكل أي تهديد للمصالح الأميركية أو الإسرائيلية في المنطقة، فرغم الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على الأراضي السورية لم يرد عليها، ولم يسمح لحلفائه (إيران وحزب الله) القيام بالرد من الأراضي السورية. وبعد “طوفان الأقصى” منع النظام رسمياً أي مظاهرات نصرة لأهل غزة.

من جهة أخرى، وبحسب ما صرّح به الرئيس الأميركي الأسبق أوباما في أعقاب التسوية التي أفضت لنزع السلاح الكيماوي السوري، بأن لا مصالح استراتيجية لأميركا في سوريا، وهي لا تعمل على إسقاط النظام السوري بل تغيير سلوكه فقط. وكان لافتاً في تصريح أوباما، في ذلك الحين، إقراره بوجود مصالح إستراتيجية لروسيا في سوريا، وأن العلاقات الروسية – السورية لها تاريخ. هذا يعني أن تهديد المصالح الروسية في سوريا ليس من أسباب إصدار القوانين السابقة الذكر لمعاقبة نظام الأسد.

ومعلوم أيضاً أن الرئيس دونالد ترامب كان قد قرر سحب القوات الأمريكية من سوريا، بعد الانتصار الحاسم لقوات سوريا الديمقراطية “قسد” على “داعش” في الباغوز، آخر معاقله في الأراضي السورية، لكنه تراجع بعد أن تعرض لضغوطات من وزارة الدفاع لديه، ومن أعضاء بارزين في مجلس النواب والشيوخ الأميركيين، وتلبية لطلب بعض حلفائه في التحالف الدولي ضد داعش (فرنسا وبريطانيا) فلم يسحبها بالكامل بل اكتفى بتخفيض عديدها والإبقاء عليها في بعض قواعدها في شرق سوريا وفي منطقة التنف. ومع أن العديد من المسؤولين الأميركيين كانوا قد اتهموا نظام الأسد وحليفته إيران بالمسؤولية عن ولادة تنظيمي داعش والقاعدة، أو في الحد الأدنى عن وجود علاقات لتبادل المصالح بينهما، إلا أن القضاء على داعش لم يعد يشكل مبرراً مقنعاً لهذا التشدد ضد نظام الأسد.

وبطبيعة الحال ليس جواب السؤال في دعم القضية الكردية في سوريا؛ فالولايات المتحدة، كما يصرح مسؤولوها، لا علاقات سياسية لها مع “قسد” أو “مسد” بل علاقات عسكرية تتعلق بمحاربة “داعش”. ولا يجد السؤال جواباً عنه أيضاً في الضغط على النظام لإنجاز الحل السياسي وفق القرار 2254 الصادر على مجلس الأمن بإجماع أعضائه. لقد بين مسار جنيف التفاوضي لحل الأزمة السورية أن دور جميع الدول المؤثرة فيها لم يكن جدياً في تسويتها سياسياً عبر التفاوض، بل ساهم بعضهم (روسيا وإيران) عبر مسار أستانا في تفريغ مسار جنيف من أي إمكانية للنجاح.

ويبقى الاحتمال الأكثر ترجيحاً للجواب عن السؤال المتعلق بإصدار أميركا ثلاث قوانين لمعاقبة النظام السوري يكمن جزئياً في الضغط على النظام لإخلاء سبيل بعض الموقوفين الأميركيين لديه، وكان الرئيس السوري قد أقر بوجود مفاوضات بهذا الخصوص في إحدى مقابلاته الصحفية. وبحسب بعض المصادر السورية كانت واشنطن قد عرضت خلالها تخفيف العقوبات على دمشق، في حين طالب النظام بانسحاب القوات الأميركية من الأراضي السورية.

ويكمن الجواب جزئياً أيضاً في الضغط على النظام باعتباره حليفاً مهما لإيران، رغم ضعفه، لجعلها تبدي مرونة أكبر في المفاوضات التي كانت جارية بين إيران من جهة والدول الغربية من جهة ثانية للعودة إلى الالتزام بالاتفاق النووي. بالطبع هذا الاحتمال لم يعد ذي أهمية كبيرة بالعلاقة مع المسألة النووية الإيرانية، لكنه يبقى مهماً جداً في عملية إنضاج الظروف للحد من التدخلات الإيرانية المزعزعة لاستقرار المنطقة.

إن استراتيجية “الفوضى الخلاقة” التي اعتمدتها إدارة جورج بوش الابن في المنطقة العربية، ونفذتها إدارة أوباما، واستثمرت فيها سياسياً واقتصادياً إدارة ترامب، كان يؤمل منها التقليل من الأهمية الإستراتيجية للمنطقة، للتفرّغ لمجابهة الصين في الشرق الأقصى، خصوصاً بعد أن غرقت روسيا في مستنقع الحرب الأوكرانية. غير أن الحرب في غزة قلبت المعادلات في المنطقة رأساً على عقب ووجدت الدول الغربية نفسها من جديد غارقة في مشاكلها. لذلك يجري الحديث في الأوساط السياسية الغربية عن ضرورة العودة إلى استراتيجية استقرار المنطقة الأمر الذي يتطلب إيجاد حلول دائمة لمشاكلها، وليس خافياً أن تحقيق ذلك من غير الممكن بدون مشاركة إيران البناءة. وعليه، فإن الضغط على حلفاء إيران في المنطقة وفي مقدمتها النظام السوري سوف يساهم في ذلك.