في فترة ما بعد تفكك الاتحاد السوفياتي بعام 1991حصلت حالات كثيرة من التحول بعيداً عن الماركسية عند الكثير من الشيوعيين، وقد برز عند هؤلاء حالات انكار وتبرؤ من المفاهيم التي كان يتداولها الشيوعيون، ومنها مفهوم “الثورة”، وكان هذا التبرؤ غالباً ما يأخذ شكلاً من الاستهزاء والسخرية. ولكن عندما انخرط الكثير من الشيوعيين السابقين في مرحلتهم الليبرالية الجديدة ضمن تحالفات جمعتهم مع الإسلاميين ، مثل “المجلس الوطني ” و”الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة” بعامي 2011 و2012، فإنهم ضربوا رقماً قياسياً في استعمال مفردة “الثورة” لوصف مايجري في سوريا منذ عام2011.
لم يجرِ عند هؤلاء تداول معرفي لمفهوم الثورة يمكن عبره تشكيل رؤية سياسية ومن ثم برنامج سياسي تقوم على أساسه الممارسة العملية، كما جرى مثلاً في عام 1900عندما عارضت روزا لوكسمبورغ بكتابها:”إصلاح اجتماعي أم ثورة؟” طروحات إدوار برنشتين الذي طرح ضمن “الأممية الثانية”،التي كانت تضم الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية الأوروبية، التخلي عن “الثورة” كطريق نحو الاشتراكية واستبدالها بطريق “الإصلاح”. في كتابها هذا قامت روزا بتقديم الثورة كطريق اجباري وحيد نحو الوصول للاشتراكية ، وبالتالي حددتها كمفهوم سياسي يقوم عليه ( بناء الرؤية – البرنامج – الممارسة ) للحزب الاشتراكي الديمقراطي .
على هذا المنوال كان تصادم لينين، في كتابه (خطتا الاشتراكية الديمقراطية في الثورة الديمقراطية) بعام 1905، مع تروتسكي الذي طرح مفهوم “الثورة الدائمة” في كتابه (نتائج وتوقعات) الصادر عام1906، مبنياً على رؤيتين لمفهوم الثورة، رؤية تقول بأنها تقتصر على المهام الديمقراطية وفق حدود الثورة الفرنسية لعام 1789، والثانية تقول بأنها ثورة دائمة تبدأ من الدرج الديمقراطي لتصعد للدرج الاشتراكي، وهو ما تبناه لينين في عام1917 بكتابه (موضوعات نيسان)، وقد اتهمه من عارض الكتاب حتى بين البلاشفة بأنه يجنح نحو رأي تروتسكي في كتابه هذا الذي كان خريطة الطريق نحو ثورة أكتوبر1917.
هنا، لا نجد عند من انخرط من السوريين، من الشيوعيين السابقين وأيضاً من حالفهم من الإسلاميين في “المجلس” و”الإئتلاف”، أي ملامسة معرفية مفهومية لمفهوم الثورة، حيث استخدموه كشعار شعبوي أرادوا منه التحشيد والاستقطاب لتبرير ماطرحوه من شعار “اسقاط النظام”، ولم يدرسوا أو يقوموا بفحص معرفي – مفهومي للوضع السوري المنفجر منذ يوم 18آذار/مارس2011 إن كان يمثل حالة ثورية، وفق التعريف العلمي المطروح من قبل تشارلز تيلي المؤسس لـ (علم سياسة النزاعات)، في كتابه (من التعبئة إلى الثورة) الصادر عام 1977 عن جامعة ميتشيغان، إذ يحدد تيلي قيام الحالة الثورية بثلاثة شروط وهي: “1- ظهور منافسين للسلطة يقدمون مطالب حصرية تحوي بديلاً؛ 2- التزامات كاملة بهذه المطالب؛ 3- عجز الحكومة عن القمع.”
أيضاً، فإن هؤلاء ما زالوا حتى الآن، وبعد ثلاثة عشر عاماً على 18 آذار/مارس 2011، يقولون بأن “الثورة مستمرة”،من دون أن يلتفتوا لواقع أنه لا يوجد، إن تم التسليم بأن هناك “ثورة سورية”حصلت عام 2011، أي ثورة استمرت أكثر من السنوات السبع للثورة الانكليزية عام 1642 للبرلمان ضد الملك تشارلز الأول، وتحولت لحرب أهلية بين مركزي لندن وأوكسفورد قبل أن تنتهي بقطع رأس تشارلز، ثم كانت الثانية بالعمر الطويل هي الثورة الفرنسية التي دامت خمس سنوات وانتهت بقطع رأس روبسبيير بالمقصلة عام 1794 وهزيمة اتجاه اليعاقبة الثوري.
يعطي هذا صورة عن الهشاشة المعرفية لاتجاهات سياسية وقيادات تتصدر المشهد السياسي السوري المعارض منذ عقد ونصف من الزمن، حيث لم يكن هذا الوضع قائماً في الحياة السياسية السورية في عقد السبعينيات من القرن العشرين، عندما كان القتال الفكري- السياسي الدائر حول المفاهيم السياسية هو الذي يحدد الاصطفافات السياسية بين الأحزاب السياسية وفي بعض الحالات داخل الحزب الواحد، كما جرى في الحزب الشيوعي السوري من قضايا الخلاف، قبيل انشقاق 1972، حول مفاهيم عدة منها “مفهوم الأمة العربية: هل هي مكتملة التكوين أم لا ؟” أو حول مفهوم “الطريق اللارأسمالي”، وفي فترة 1976- 1978 كان طريق الحزب الشيوعي السوري(المكتب السياسي) إلى المعارضة السياسية للسلطة قد افتتح من خلال التخلي عن مفهوم “الديمقراطية الشعبية” وتبني مفهوم “الديمقراطية”، وقد كان تبني المفهوم الأخير طريقاً إلى برنامج سياسي طرح فيه حزب يساري سوري لأول مرة في عام 1978، بالقياس لمرحلة ما بعد 8 آذار1963، مفهوم الديمقراطية بالمعنى الكلاسيكي البرجوازي بالترافق مع التخلي عن مفهومي “الطريق اللارأسمالي” و”المرحلة الديمقراطية الثورية”، ومع تبني رؤية فكرية- سياسية ترى في مرحلة ما بعد 8 آذار 1963 طريقاً لرأسمالية الدولة، والتي حُدِدت بأنها هي القاعدة الاقتصادية لاحتكار السلطة في نظام سلطة الحزب الواحد.
عند السلطة السورية، منذ عام 2011، نجد وضعاً أكثر تماسكاً من المعارضين في استخدام المفاهيم السياسية وتجيير الأخيرة لصالح الممارسة السياسية وأيضاً لاستخدام المفاهيم في الخطاب السياسي والتعبئة، حيث كان ملفتاً استخدام مفهوم “الأزمة” للدلالة على وضع مابعد 18 آذار2011 بالترافق مع مفهوم “المؤامرة” للدلالة أيضاً على نفس الوضع، مؤامرة أوضح الرئيس السوري (خطاب 30 آذار2011) أن خيوطها ” تمتد من دول بعيدة وقريبة ولها بعض الخيوط داخل الوطن”، وفي الخطاب نفسه استخدمت كلمة “الأزمة”، ولكن تم ربط (الأزمة) بأنها نتيجة للمؤامرة، وليس بوصفها ناتجة أساساً عن وضع داخلي رغم الاعتراف بالأخطاء والثغرات وبضرورة الحاجة للإصلاح، وبالتالي “إذا فرضت علينا المعركة اليوم فأهلاً وسهلاً بها”، وهو ما سهل على السلطة لاحقاً الانتقال من استخدام مفهوم الأزمة إلى مفهوم “الحرب على سوريا” لوصف الوضع السوري منذ عام2011، وأيضاً لتسويغ سياسي لمفهوم “الاستعانة بحلفاء” لمجابهة “الحرب على سوريا التي تقوم بها أطراف من خارج الحدود بسبب السياسات السورية المعادية للأميركان وإسرائيل” ولو لها بعض الخيوط في الداخل، وبالتالي ليس هناك من معارضة إلا ما تقوم السلطة بتصنيفها على أنها ليست مرتبطة خيوطها بالخارج .
كتكثيف: يقوم المفهوم السياسي على إضمار معرفي بأن الممارسة السياسية لا يمكن أن تستند على ما قاله برنشتين: “الحركة هي كل شيء، والهدف لاشيء “، بل على أن السياسة تبدأ من المفاهيم التي تشكل الرؤية السياسية التي يتولد منها البرنامج السياسي المحدِّد للأهداف ومن ثم تقوم عملية الممارسة بالسعي إلى تحقيقها وفق مبدأ “إدارة الممكنات”.