من خلال الفنون الشعبية.. فنانون سوريون يعززون الهوية الثقافية لمنطقة الجزيرة
أفين يوسف ـ القامشلي
ينبض التنوع والغنى الثقافي في قلب الفن السوري، ويستخدم الفنانون السوريون لغاتهم المحلية المتعددة لنقل رسائلهم السامية، وبواسطة الأغاني والدبكات التراثية، ينعكس تراث وثقافة سوريا بألوانها المتعددة.
وتتمازج الألحان الكردية والعربية والسريانية والتركمانية والشركسية والأرمنية لتخلق مزيجاً فنياً فريداً يعبر عن هوية الشعب السوري وتراثه الغني ويؤكد على التعايش المشترك.
ولأن الفن هو وسيلة فعالة للتواصل والتعبير عن الهوية، تسعى مؤسسات وفرق فنية مختلفة في شمال شرقي سوريا من خلال نشاطاتها إلى إحياء الهوية الثقافية للمنطقة.
ورغم أن المنطقة غنية باللغات والثقافات المختلفة والمتنوعة، كالسريان والأرمن والآشور والكرد والتركمان والشركس والعرب، إلا أنه خلال العقود الفائتة كان الفلكلور على مستوى سوريا يتمثل باللون “المارديلي” فقط، بحسب عضو حركة ميزوبوتاميا للثقافة والفن بيكس داري.
ويقول لنورث برس: “كان يتم تهميش المكونات الأخرى، لذلك أبدينا اهتمامنا بضرورة إحياء التراث والفلكلور والتنوع الثقافي للمنطقة”.
سياسة الإقصاء
ومنذ عقود كانت الأنظمة الحاكمة، تتبع سياسة الإقصاء على هذه الجغرافيا، من خلال فرض سياسة اللغة والثقافة والقومية الواحدة، بحسب ما قال مسؤول قسم الصوتيات في استديو ولات، سرخبون زينو.
ويضيف لنورث برس: “هدفنا أن نخبر العالم من خلال الفن والموسيقا بوجود هذه الثقافات المتنوعة، وأن هناك تعايشاً مشتركاً في المنطقة”.
وعلى اعتبار أن لكل مكون هوية وعادات وتقاليد وتراث خاص، عملت لجنة الثقافة والفن في الطبقة، منذ طرد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، منها، على فتح المجال أمام كل مكونات المنطقة للمشاركة في كافة الفعاليات والمهرجانات الثقافية.
ويقول الرئيس المشارك للجنة الثقافة والفن في الطبقة، الفنان علي علايا، إن هناك تجارب عديدة للمكونات وكان أولها عمل “أصالة الروح”. وشارك “علايا” في العمل الذي يجمع المكون الكردي والعربي، وكان بمثابة قاعدة أساسية لبداية العمل المشترك بين المكونات في الطبقة.
حقبة “داعش”
وتهدف حركة ميزوبوتاميا للثقافة والفن، إلى إحياء تراث وفلكلور مكونات المنطقة، خاصة في المناطق التي كان يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، مثل مناطق الرقة ومنبج ودير الزور والطبقة.
ففي حقبة “داعش” أدت ضغوطات التنظيم إلى هجرة غالبية الفنانين من مناطقهم، واضطر فنانون آخرون لترك عملهم الإبداعي ونشاطهم الفني خوفاً من المسائلة.
بينما تجنبت أغلب نساء الرقة الاقتراب من المراكز الثقافية أو العروض الفنية حتى بعد تحرير الرقة بثلاث سنوات، وكنّ يلتزمن بارتداء النقاب الأسود.
ويوضح “داري” عضو حركة ميزوبوتاميا للثقافة والفن، أنه إبان تحرير مناطق الرقة والطبقة تم التواصل بشكل جدي “مع الشخصيات المرموقة والمعروفة في المنطقة ممن يعتبرون أيقونات سواء فكرية أو ثقافية أو فنية”.
ويستطرد، “لاحظنا أن هناك كم هائل من التراث والفلكلور المادي والمعنوي، وللأسف الشديد لم يسلط الضوء عليه”.
وأثمر التواصل والنقاش بين الفنانين على مستوى المكون العربي، بشكل خاص، عن إنجاز عمل فني غنائي باسم “أصالة الروح” يهدف إلى إرسال رسالة مفادها أن هناك تعايش مشترك في المنطقة.
وكان العمل عبارة عن مجموعة من الأغاني التي تتميز بها منطقة ميزوبوتاميا وبين النهرين، والمزج بين اللون الفراتي واللون الموصلي.
ونتيجة التقارب بين الشعبين السوري والعراقي كانت هناك أغانٍ مشتركة، إضافة إلى الأغاني الكردية الأكثر انتشاراً في المنطقة.
وعام 2020 ضجّت وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي بالعمل الفني “أصالة الروح”، من إنتاج “استديو الشهيد ولات”. وكان للعمل صدىً إيجابياً جداً خاصة عند المكون العربي، و”تفاجئنا بأن العمل تخطى جغرافية شمال شرقي سوريا”، بحسب “داري”.
وبُث العمل في أغلب القنوات العراقية والخليجية، كما أنه انتشر في بعض الدول الأوروبية مثل ألمانيا وهولندا، وتم التواصل مع القائمين على العمل وترجمة بعض الأغاني إلى اللغة الهولندية.
وعام 2021 تم إعداد عمل جديد باسم “ألحان منسية” بست لغات (العربية والكردية والشركسية والأرمنية والسريانية والتركمانية)، بدعم ورعاية الهيئة العامة للثقافة والفن في شمال شرقي سوريا، وشارك في العمل 125 شخصاً من كل المكونات.
وتشدد فرقة برمايا للتراث السرياني، من خلال عروضها على إظهار الثقافات المتنوعة في المنطقة، على الرغم من أن المهمة الأساسية للفرقة هي إحياء التراث السرياني وإنعاش الثقافة السريانية والحفاظ على الموروث والحضارة السريانية التي تجاوز عمرها خمسة آلاف عام، بحسب ما قالته مديرة الفرقة، رمثة شمعون لنورث برس.
وتضيف: “كل أنواع الدبكات المنتشرة بين مكونات المنطقة هي دبكات تراثية متجذرة في هذه المنطقة واتخذتها كل الشعوب، ولا يمكن أن تنسب لأي مكون دون الآخر”.
ويبلغ عدد أعضاء “فرقة برمايا” من خمسين إلى ستين راقصاً وراقصة، تبدأ أعمارهم من سن العاشرة إلى ثلاثين عاماً وما فوق.
وتشارك فرقة برمايا منذ تأسيسها عام 2009 في مدينة القامشلي، في العديد من المناسبات والفعاليات، كأعياد نوروز وأعياد الميلاد وغيرها.
ويخوض أطفال برمايا تجارب الأداء على مستوى القامشلي، فيما يخوض بقية أعضاء الفرقة تجارب الأداء في عموم سوريا وفي العراق.
ومنذ تسع سنوات تشارك الفرقة في مهرجان “قوس قزح” الذي تنظمه وزارة الثقافة السورية، ومن المقرر أن تشارك في المهرجان هذا العام في دار الأوبرا بدمشق، بجانب عدد من الفرق التي تمثل المكونات السورية الأخرى.
استقطاب كل الألوان
ويشير الفنان علي علايا، إلى أن التنوع في العمل الفني “ألحان منسية” عزز الثقة أكثر بين كافة المكونات على أرض الواقع، وكان العمل “الأكثر تميزاً” كونه فتح المجال أمام كافة الفنانين للتعرف على ثقافات بعضهم البعض والمشاركة بعمل واحد سوياً، ودافعاً لاستمرار التواصل فيما بينهم. إضافة إلى تبادل الدعوات للمشاركة في الحفلات في كل مناطق شمال شرقي سوريا.
وعُرض “ألحان منسية” ضمن سوريا في المركز الثقافي في السويداء لأكثر من عشر مرات، كما عرض على شاشة السينما في أكبر مركز ثقافي بحلب.
و”ألحان منسية” المؤلف من 6 لغات، كان رسالة تدل على التعايش المشترك وأن هذه المكونات مرتبطة ببعضها ثقافياً وفنياً، بحسب “علايا”.
وعلى اعتبار أن هذه المنطقة غنية بالتنوع القومي والثقافي والديني، يشير “علايا”، إلى أنه “كوننا وصلنا إلى العالمية فإنه من الضروري أيضاً مزج ثقافات من خارج جغرافيا المنطقة ضمن أعمالنا”.
مشاريع فنية قادمة
ويتم العمل على إنجاز عمل موسيقي غنائي جديد يشمل كل الجغرافية السورية، سيلحن على مقام الحجاز الذي تشترك وتتميز فيه المنطقة، ويستخدم في كل اللغات على مستوى الشرق الأوسط.
ويتميز العمل بتعدد الألوان الغنائية ابتداءً من السويداء والساحل والمناطق الداخلية وحلب والرقة ودير الزور ومنبج ووصولاً إلى المناطق الكردية عفرين وكوباني والجزيرة.
وقامت مؤسسة باركين المختصة بالتراث وتوثيق الفلكلور بالشراكة مع استديو الهلال الذهبي وحركة ميزوبوتاميا للثقافة والفن واستديو ولات، بإنجاز عمل باللغة الكردية عن تاريخ نضال المرأة، تشارك فيه حوالي 300 امرأة، من إخراج “شيرو هندي” والتوزيع الموسيقي بإشراف الموسيقار “محمود برازي”، وسيتم ترجمته لأكثر من لغة.
ويشير “زينو” إلى أنه يتم التحضير لعمل فني عن تاريخ نضال المرأة، والذي من المفترض بثه خلال شهر آذار/ مارس المقبل.
ويشدد “زينو” أنه “لا يمكن أن نعيش بمنأى عن الآخرين، لأن الثقافات واللغات تكمل بعضها البعض، وكل ثقافة مرت بعدة مراحل منذ الأزل وتأثرت بالثقافات الأخرى إلى يومنا هذا، ومن الطبيعي أن تتمازج تلك الثقافات”.
ويتجلى ذلك من خلال “دمج بعض الكلمات من اللغات المختلفة في المنطقة وتداولها بشكل عفوي، ما يؤكد التمازج بين تلك الثقافات”، بحسب “زينو”.