جوان علي.. الذي هاجمت طائرات تركية أحلامه الصغيرة
أفين يوسف – القامشلي
مازال أفراد عائلة جوان علي في القامشلي يحاولون استعادة اتزانهم وإيقاع الحياة بعد أكثر من شهر على استشهاده في القصف التركي على مطبعة سيماف شمالي المدينة.
وأودى هجوم الطائرة التركية على المطبعة صباح عيد الميلاد الماضي بحياة سبعة مدنيين، هم خمسة عاملين في المطبعة ومراجعان.
وينحدر الشهيد جوان علي من منطقة عفرين التي غادرها مع عائلته عقب اجتياح تركيا مع فصائل المعارضة السورية الموالية لها عام 2018.
وكانت العائلة تعيش في مدينة عفرين وتضم ثلاثة أبناء ذكور، أوسطهم جوان، إلى جانب شقيقتهم الكبرى.
ودرس جوان حتى بلغ الصف التاسع، وحصل على البطاقة الخاصة بالامتحان، لكن الظروف لم تسمح له باستكمال تعليمه.
وغادر جوان علي طفولته باكراً، حين اضطر للتوجه مع شقيقه الأكبر لتركيا للعمل عام 2014، وهو مايزال في الرابعة عشر من عمره.
وكان الهدف من عمل الأخوين في مسمكة آنذاك هو الحصول على بعض المال الذي يعينه على بدء عمل يؤمّن
دخلاً منتظماً بعد سداد الديون المترتبة على بناء منزل العائلة في عفرين.

لكن تعلق جوان بالعائلة وإصراره على العودة كل بضعة أشهر لرؤية والدته، جعله يقرر عام 2016البقاء في عفرين.
تقول والدته، شيرين معمو، لنورث برس، إنه كان يبقى مبتسماً رغم الصعوبات التي يواجهها في عمله وحياته، وإنه لم يكن يتخلى عن روح الدعابة لديه.
بعد أشهر عاد شقيقه أيضاً، وافتتحا في عفرين محلاً صغيراً لمستلزمات تمديدات الكهرباء والمياه للمنازل والأبنية.
كان المحل صغير، لكنه كان يسد احتياجات العائلة، وهو ما وفر لأفرادها الاستقرار نسبياً.
لكن هجمات تركيا والفصائل الموالية لها على منطقة عفرين ثم اجتياحها عام 2018، دفع العائلة للنزوح إلى بلدة فافين بريف حلب الشمالي، ليتوجه جوان بعدها بأيام مع والدته وشقيقة الأصغر مرفان إلى القامشلي.
آمال وصعوبات
وفي القامشلي بدأت صعوبات تأسيس مقومات الحياة من جديد، فقد بقيت العائلة تسكن شهراً عند أحد المعارف، قبل أن تتمكن من إيجاد منزل بالإيجار.
وساعد بعض الأقارب خارج البلاد وبعض أصدقاء جوان في استكمال مستلزمات الإقامة في المنزل، لكن الحياة كانت مليئة بالصعوبات في تلك الفترة، بحسب الأم.
بدأ جوان عام 2019 بالعمل في مشغل للخياطة في القامشلي، وتعرف هناك على شريكة حياته روان قاسم التي كانت تعمل مع شقيقها وشقيقتها في الورشة نفسها.
حصل الشاب بعدها على فرصة عمل كسائق في شركة المحروقات التابعة للإدارة الذاتية، كانت مهمته نقل الموظفين إلى الشركة ومنها إلى منازلهم، بالإضافة لتنقلاتهم أثناء العمل.
كان جوان حريصاً على شقيقه الأصغر، وودوداً مع والدته، معتاداً على أن يقبلها ويحتضنها قبل مغادرته كل صباح.
ويشهد زملاؤه في العمل أن الشاب العشريني كان يمتلك حكمة رجل في الخمسين من عمره.
وتتذكر والدته أنه كان يسعد بإيقاظها له في الصباح فيقول: “حين تكونين غائبة، أستيقظ وحدي حتى بدون منبه، لكن عندما تكونين موجودة فإنني أنام مطمئناً”.
وفرحت الأم بتزويج ابنها، إذ اعتبرت أن ذلك سيزيد من عوامل استقرار حياته وسعادته بعد ما واجهه من صعوبات في حياته.
وبدأت الأحلام تكبر، لدى العائلة مع ولادة طفلي جوان، والأمل في حياة أجمل مستقبلاً.
تقول زوجته إنه كان يسعد بتأمين ما يحتاجه كل فرد من العائلة، ويبقى يتعامل بروحه المرحة حتى بكون الجميع راضون.
هجمات تركية
في الخامس والعشرين من كانون الأول/ ديسمبر، أيقظت الأم ابنها، أشعلت المدفأة وأعدت الشاي.
تقول إنه بالغ في توديعها ذلك الصباح، وحين تبعته إلى الشارع حيث سيارته طلب منها أن تعود خشية البرد.
عندما وصل زميله علي للمركز لم يشاهد جوان الذي يعاتبه عادة على تأخره أو إهمال غسل سيارته، وفي المكتب شاهد هاتفه الذي يستخدمه للاتصال بالإنترنت في الشاحن.
بعد نحو ساعة سمع أفراد العائلة دوي الضربات، وحين لم يرد على والدته، كتبت لصديقه: “علي. جوان ما يرد عليّ”.
عمّ الخوف المنزل مع تكرر الضربات، بينما نبّه الابن مرفان (14 عاماً) والدته وزوجة أخيه لعدم إخافة الطفلين ببكائهما.
طالت إحدى الضربات محيط مركز المحروقات، فغادر العاملون مكاتبهم، واتصل جوان بعلي للاطمئنان عليهم، “انتبهوا لأنفسكم، واحمل هاتفي معك، أنا مشغول ببعض الأعمال الآن”.
عندما انتصف النهار، رد صديق جوان على والدته، قال إن هاتفه معه لأنه تركه في الشاحن، وإن جوان لم يكن في المركز حين ضربت الطائرات التركية محيطه.
لكن خبر وجود جوان وزميله الآخر فرحان في المطبعة التي تم قصفها قبل قليل وصل لمسامع علي الذي سارع للاتصال بالمشفى.
وتأسست مطبعة سيماف في القامشلي بعد عام 2011، وقامت بإصدار العشرات من الكتب والمجلات، بالإضافة لوثائق ورقية كوصولات البيع والشراء.
ورغم أن يوم الميلاد عطلة رسمية في مؤسسات الإدارة الذاتية، إلا أن بعض المؤسسات والأعمال تقضي طبيعة عملها الاستمرار في الدوام، ومن بينها مديرية المحروقات ومطبعة سيماف.
الطبيب أبلغ علي باستشهاد فرحان، بينما لا يعلم من هو جوان، ليستدرك بعدها أن شاباً لا يعلمون هويته مصاب وموجود على المنفسة.
حين أرسل علي صورة جوان للطبيب، أجاب: “نعم هذا هو المصاب، زوّدني باسمه وأبلغ عائلته”.
“كأنه ملاك”
أبلغ علي والدة جوان أنه في المشفى، ولخشيته من تأثير الصدمة عليها قال إن جرحه خفيف.
الدعوات والبكاء كان سبيل أفراد العائلة لتحمل الخبر، ليتوجهوا بعدها إلى المشفى المزدحم بذوي الضحايا وعناصر الأسايش.
منعوا الجميع من الدخول، لكن الأم رفضت المغادرة إلى ان تأخر الوقت وتجمع المعارف أمام المشفى، “قررت العودة للمنزل للاهتمام بضيوف جوان”.
وفي اليوم الثاني، سمح كادر المشفى للأم والزوجة برؤية جوان عن بعد عبر شاشة.
“كان مغمض العينين ورأسه وجسمه مغطى بالشاش، كان جميلاً حتى وهو جريج، كان يشبه الملائكة”.
تمسكت الأم بالأمل حين غادر ابنها عفرين نحو تركيا للعمل، وحين بدأ مع شقيقه العمل في التمديدات الصحية والكهربائية، وحين غادروا عفرين بسبب الاجتياح التركي، وحين واجهوا صعوبات الاستقرار في القامشلي.
كان زواجه وطفلاه ثمرة الأمل الذي تمسكت به العائلة حتى بعد تفككها وتباعد أفرادها.
في الزيارة الثانية للمشفى، ترجّت الأم الأطباء أن يستجيبوا لحرقة قلبها ويضعوا شالها قرب رأس جوان، وشعرت ببعض الراحة حين أبلغوها بتعقيم الشال ووضعه على وسادة ابنها المصاب.
تقول إنها كانت مستعدة لانتظاره، وهمست في دعواتها أنها مستعدة لتحمل بقائه في الغيبوبة لأسابيع وأشهر، المهم أن يعود معافى في النهاية.
وكانت متفائلة بعد مرور ثلاثة أيام من إصابته، فقد أملت أن يكون قد اجتاز الخطر على حياته في هذه الفترة.
يوم الجمعة التاسع والعشرين من كانون الأول/ ديسمبر، جاء رجلان لمنزل العائلة وسلما على والدة جوان، فعرفت أنهما حضرا لإبلاغها باستشهاده.
“قلت لهما: هسس، لا تقولا شيئاً، لا أقبل، وصرخت باسم جوان”.
“لن ننسى شهامته”
وقبل إبلاغ العائلة، كان علي قد أصر على رؤية جثمان صديقه الشهيد، ” كان أبيض الوجه جميلا كأنه نائم، لمست وجهه وقبلته، لن ينسى كل من عرفه أنه كان رجلاً شهماً”.
وأودى هجوم الطائرة التركية يوم الإثنين الخامس والعشرين من كانون الأول/ ديسمبر على مطبعة سيماف بحياة سبعة أشخاص مدنيين، خمسة منهم عاملون في المطبعة، بالإضافة لمراجعين هما جوان علي وفرحان تمي من دائرة المحروقات.
وتبنت تركيا استهداف مطبعة سيماف في القامشلي من خلال فيديو أرفقته بشرح: “تم التأكيد على أنه تم اتخاذ أقصى درجات الحذر لمنع تعرض المدنيين ومباني المستوطنات المدنية للأضرار أثناء العمليات”.
ويذكر صديقه علي حسو، إنه كان سعيداً بالتخطيط مع راتب كل شهر لشراء شيء لابنه أو تخصيص مال لالتحاق شقيقه بتدريب مهني أو دورة لتعلم اللغة الانكليزية، فقد كان يحلم بأن يكونوا ناجحين وسعداء في حياتهم.
عائلة وأصدقاء جوان مجتمعون في مزار الشهداء في القامشلي في اربعينية وفاته – نورث برس
وفي الليلة السابقة لإصابته، كان جوان مع والدته وشقيقه يزوران والدة علي التي أجرت عملية جراحية في المشفى، وعرض على صديقه المساعدة في أي شيء يحتاجه.
يضيف علي: “كانت وجهات نظرنا للأمور مختلفة، وفي مرات كثيرة كان يقوم بالعمل مثلما أريد ليحافظ على الاتفاق والود بيننا”.
وترفض الأم الاستجابة لطلب باقي أفراد العائلة في ريف حلب الشمالي للانتقال هناك، فهي تفضل الاهتمام بقبر ابنها الشهيد وأخيه وعائلته.
وتعتقد أن جوان كان يفكر بهم حتى لحظة إصابته ودخوله في غيبوبة، ذلك ما يدفعها للاستمرار في الحياة والحرص على العائلة.