في اليوم السابق لزيارة مستشار الأمن القومي الأميركي للسعودية جاك سوليفان، في 7أيار/مايو2023، نشر موقع “أكسيوس” نصاً كتبه باراك رافيد بعنوان: “سكوب (سبق صحفي): الولايات المتحدة، السعودية، آخرون، يناقشون مشروع سكة حديد تربط الشرق الأوسط “، وحسب النص فإن مسؤولاً إسرائيلياً قال عن المشروع الكلام التالي :” لاأحد قالها، ولكن الصين هي في قلب الموضوع ” .
عندما وُقِع هذا المشروع في يوم السبت 9أيلول/ سبتمبر2023، على هامش قمة العشرين في العاصمة الهندية التي غاب عنها الرئيس الصيني، ظهر الرئيس الأميركي جو بايدن عرّاباً للمشروع ، رغم عدم المعنية الجغرافية للولايات المتحدة الأميركية به ، كما غاب عن حفل التوقيع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين ناتنياهو رغم أن ما ظهر من خريطة المشروع أن بدايته ككوريدور ستمتد من الساحل الهندي ونهايته ستكون في الساحل الإيطالي (وربما اليوناني أيضاً)، عبر جسر بري يمتد من الساحل الإماراتي إلى الساحل الإسرائيلي عبر السعودية والأردن والعكس بسكك حديد وأتوسترادات وأنابيب طاقة (نفط وغاز وغيرهما) .
في 21أيلول/ سبتمبر2023 ظهر ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في مقابلة مع قناة “فوكس نيوز”، قال فيها إن التطبيع مع إسرائيل “يصبح أقرب فأقرب كل يوم “، ورغم أنه أشار إلى أهمية القضية الفلسطينية عند السعودية إلا أنه لم يضع شرطاً للتطبيع قيام دولة فلسطينية على حدود يوم 4 حزيران/ يونيو1967 كما نصت على ذلك المبادرة العربية التي قدمتها السعودية لقمة بيروت العربية عام 2002 وتبنتها تلك القمة، وقد أوحت تلك المقابلة بأن من مستلزمات (الكوريدور) حصول التطبيع السعودي- الإسرائيلي .
في مقاله في جريدة “واشنطن بوست”، بيوم 20 تشرين الثاني/ نوفمبر2023، قال الرئيس الأميركي جو بايدن إن “حركة حماس” أرادت من هجوم 7 أكتوبر ” تفشيل التطبيع السعودي – الإسرائيلي” .
يجب هنا تجميع هذه التواريخ وربطها: زيارة سوليفان للسعودية قادت إلى اتفاق نيودلهي، و”الكوريدور”، بما يعنيه من تطبيع سعودي – إسرائيلي، دفع يحيى السنوار إلى الضربة الاستباقية ، الممثلة في هجوم 7 أكتوبر، لتفشيل هذا التطبيع الذي كانت ستكون ترجمته السلبية على حركة حماس أكثر من الترجمة السلبية للتطبيع المصري أواخر السبعينيات على ياسر عرفات وحركة فتح، بحكم المكانة الدينية للسعودية وبحكم الكوريدور الذي كان سيمر بـ”غلاف غزة” وما يعنيه هذا من احتمالات الاتجاه إلى إنهاء حكم حركة حماس في قطاع غزة كشرط لبناء الكوريدور، إضافة إلى إضعاف حركة حماس ضمن خريطة القوى الفلسطينية كشرط لتطبيع فلسطيني مع إسرائيل يتطلبه الكوريدور.
ولكن البداية ليست في 7أيار/ مايو2023، بل كما قال المسؤول الإسرائيلي لموقع أكسيوس : “الصين هي في قلب الموضوع”، حيث من المؤكد أن مشروع (الكوريدور)، الذي قلبه هي الهند التي في عداء مع الصين منذ عام 1962، يهدف إلى وضع السعودية في مشروع أحد أهدافه الرئيسية قطع الطريق على مشروع “الحزام والطريق” الذي طرحته الصين عام 2013 للربط بين القارات الثلاث: آسيا- إفريقيا- أوروبا ، وأحد الممرات الرئيسية هي منطقة الشرق الأوسط، وبالتأكيد كان سوليفان وهو يطرح “الكوريدور” في السعودية يفكر في اتفاق 10آذار/ مارس 2023السعودي- الإيراني الموقع في العاصمة الصينية، وهو ما أفزع واشنطن وفق صحف أميركية عديدة حيث تم تشبيه اتفاق بكين باتفاق الأسلحة التشيكية لمصر عام 1955 وما عناه من بداية الدخول السوفياتي لمنطقة الشرق الأوسط عبر بوابة الرئيس جمال عبدالناصر، الذي كان في احتكاك مع لندن وواشنطن تشبه احتكاكات ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مع الأميركان منذ “قضية خاشقجي” بعام 2018 وهو ماجعله يفكر بالتقارب مع الروس والصينيين .
أيضاً ، يجب الرجوع للوراء إلى يوم الخميس 24شباط/ فبراير2022عندما غزا فلاديمير بوتين أوكرانيا، ومن ثم كرد فعل غربي أميركي – أوروبي بدأ التفكير في بديل عن “محطة الطاقة الروسية ” التي كانت تزود القارة الأوروبية بمعظم احتياجاتها من الطاقة بفرعيها الغازي والنفطي، ولا يوجد سوى الشرق الأوسط في هذا الصدد كبديل وحيد للروس، حيث لا تستطيع ذلك منطقة آسية الوسطى – القفقاس، ولا القارة الإفريقية عبر الممر الشمال الإفريقي، ومن ثم التفكير في تداعيات ذلك الغزو الذي تمظهر عبره تحالف صيني – روسي، شبيه بتحالف ستالين – ماوتسي تونغ في الحرب الكورية 1950-1953، ثم تثًلث ذلك التحالف بانضمام إيران له في خريف 2022، عبر تزويدها روسيا بالمسيّرات، بعد فضّ إيران في آب/ أغسطس لمفاوضات فيينا من أجل إحياء الاتفاق النووي الايراني بعد أن استغرقت تلك المفاوضات 16 شهراً، والأرجح أن هذا قد نبع من قراءة في طهران بأن ظرف ما بعد 24 شباط 2022 يتيح لايران مجالاً أكبر لاستثمار مابدأ يطرح في كثير من الأماكن حول “الضعف الأميركي المستجد” بعد ثلاثة عقود من انتصار الأميركان على السوفييت في الحرب الباردة .
هنا، إذا ربطنا “الكوريدور” باستعادة الشرق الأوسط لأهميته العالمية من جديد عند الغرب الأميركي – الأوروبي بوصفه عاصمة الطاقة العالمية، كما كان ينظر له البريطانيون والأميركان في أربعينيات القرن العشرين، فإننا يمكن أن نقبض معرفياً على أن هناك في عام 2023 قد ولدت سياسة أميركية جديدة في منطقة الشرق الأوسط .
هذه السياسة الأميركية الجديدة هي عودة إلى ماقاله وزير الخارجية الأميركي كولن باول، عام 2003 قبل قليل من غزو العراق “عن إعادة صياغة المنطقة من جديد”، وهي تختلف عن سياسة الرئيس الأميركي باراك أوباما، التي ترافق فيها الانسحاب من العراق عسكرياً في نهاية عام2011 وتسليمه سياسياً لإيران مع التركيز الأميركي على الشرق الأقصى حيث قال الرئيس أوباما في خطابه أمام البرلمان الأسترالي (17نوفمبر2011) عن آسيا الباسفيكية “هنا نرى المستقبل ..حيث نصف الاقتصاد العالمي، وآسيا هي التي ستقرر بشكل رئيسي ما إذا كان القرن الحالي هو قرن للصراع أم للتعاون”، وبالتأكيد كان أوباما في خطابه يفكّر في الصين التي أصبحت عام 2010 الرقم الثاني في الاقتصاد العالمي، كعملاق ينمو مثل ألمانيا ما بعد وحدة 1871وما أنتج النمو الألماني الاقتصادي من ميول عسكرية واتجاه للنفوذ الإقليمي والعالمي عند الألمان قوّضت سلام القرن التاسع عشر الذي أنتجه مؤتمر فيينا بعام1815بعد هزيمة نابليون بونابرت، وكيف أن الصينيون يمكن أن يكرروا السيناريو الألماني في القرن الواحد والعشرين، وأن هذا من الممكن أن يطيح بالزعامة الأميركية للعالم كما أطاحت الحربين العالميتين التي أنتجها وفجرها الألمان بأربعة قرون من الزعامة البريطانية للعالم منذ معركة الأرمادا عام 1588ضد الإسبان .
كان الفرق هو 45 يوماً بين خطاب أوباما ذاك وبين انتهاء الانسحاب العسكري الأميركي من العراق، وهو انسحاب لم يكن عسكرياً فقط بل كان يحوي انسحابية سياسية من العراق الذي سلمته واشنطن لطهران، وكان أبعد من ذلك يعني انسحابية من المنطقة الشرق أوسطية وتسليمها لإيران، بوصفها بلوكاً جغرافياً يسد الطريق الصيني إلى منطقة الشرق الأوسط، وأيضاً تسليمها لتركيا أردوغان في وقت من ذلك الخريف بعام 2011 لما كانت واشنطن ترعى وصول فروع جماعة الإخوان المسلمين للسلطة في تونس ومصر ومشاركتهم في السلطة بليبيا واليمن والمغرب وتحاول إيصالهم للسلطة في سوريا عبر دعمها لـ”المجلس الوطني” الذي تم تشكيله آنذاك في إسطنبول وهو الذي يتزعمه الإسلاميون، فتلك الانسحابية الأميركية من المنطقة عنت تعميم الأردوغانية كنموذج إسلامي أميركي للمنطقة وعنت غض النظر الأميركي عن التمدد الإيراني في المنطقة مقابل تفكيك إيران لبرنامجها النووي، ثم عنت منذ عام 2013 السماح الأميركي لروسيا في التمدد بالشرق الأوسط، مقابل أن تصبح موسكو، مثل طهران وأنقرة، في بُعد عن الصين التي أصبحت واشنطن تراها منذ عام2010 العدو الرئيسي مثلما كانت موسكو السوفياتية بالحرب الباردة 1947-1989.
من الأرجح هنا أن واشنطن قد رأت فشل سياسة أوباما في فجر يوم24شباط/ فبراير2022مع الغزو الروسي لأوكرانيا، حيث أنتج أو ظهر ذلك اليوم تحالفاً ثلاثياً أصبح واضحاً بين بكين وموسكو وطهران، والرئيس التركي أردوغان يرى نفسه أقرب لذلك الحلف من حلف الأطلسي وزعيمته واشنطن، وكثير من تصرفاته بالسنتين الماضيتين تشي بذلك، وبالتأكيد هذا يُقرأ جيداً في واشنطن .
الملفت للنظر في أربعة أشهر من حرب غزة الانخراط الكثيف الأميركي فيها، والغياب الروسي – الصيني عنها، والتنائي الإيراني عن تطبيق “وحدة الساحات” بحكم “دبلوماسية البوارج الأميركية”، وعلى ما يبدو أن واشنطن تريد عبر حرب غزة إنتاج شرق أوسط جديد أحد ملامحه الرئيسية “حل الدولتين”، فيما كان مخطط الكوريدور يفترض التطبيع فقط فيما أصبح الآن عند الأميركان “حل الدولتين بالتلازم مع التطبيع”، ويبدو أن حل الدولتين والتطبيع سيكون بالتلازم مع الكوريدور، وشرطاً لازماً له وفق التصور الأميركي الجديد، والأرجح أن هذا سيكون مناقضاً لانسحابية باراك أوباما من المنطقة، وسيكون مقدمة لانخراطية أميركية بالمنطقة شبيهة بمشروع أيزنهاور عام 1957 لـ”ملء الفراغ” البريطاني – الفرنسي والذي كان بداية لنقل التجابه الأميركي – السوفياتي لمنطقة الشرق الأوسط.
هذه السياسة الأميركية الجديدة تفترض ضعف “المخفر الإسرائيلي” وعدم قدرته على استمرار وظائفه السابقة التي كان يفترضها الغرب البريطاني – الأميركي منذ وعد بلفور، وتفترض الابتعاد عن السياسة الأميركية الإرضائية للإيرانيين والأتراك والروس في المنطقة، واتجاهاً أميركياً لارضاء العرب والكرد، واتجاهاً أميركياً لجعل الشرق الأوسط ميداناً رئيسياً لمجابهة التحالف الصيني – الروسي- الإيراني ، مع تهميش أميركي للاعبين على الحبال مثل أردوغان.