ما كان يبحث عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، قدمته له إيران على طبق من فضة؛ فالحشد العسكري الأميركي الذي توافد للمنطقة، مع إنطلاق الحرب على قطاع غزة، أراد نتنياهو الاستفادة منه عبر الدفع بالولايات المتحدة لحرب متعددة الساحات يتخلص فيها من كل أعداء إسرائيل، أو من ينافسها على النفوذ والسيطرة في الشرق الأوسط، ويكرس نفسه (كما يحب) كبطل قومي في إسرائيل، فلا مانع لدى نتنياهو من حرب على الجنوب اللبناني والتخلص من حزب الله، ولا مانع من اجتياح الجولان السوري واقتلاع البنية التحتية لفيلق القدس والحرس الثوري الإيراني التي انتشرت في أرياف القنيطرة بموافقة وتشجيع من نظام الأسد، ولا مانع حتى من ضربات تطال الميليشيات الولائية في العراق والتخلص من ميليشيات الحوثي في اليمن.
الولايات المتحدة التي حافظت على قاعدة “لا لتوسيع الحرب في غزة”، ولا ساحات جديدة للقتال، وأن قواتها التي انتقلت للبحر المتوسط والبحر الأحمر والخليج العربي، هي مخصصة لردع أي طرف ثالث يفكر بأن يكون جزءاً من الحرب القائمة في غزة، فقابلت طهران الرغبة الأمريكية بما أسمته “الصبر الاستراتيجي”، الذي روجت له مقابل اغتيال ومقتل العشرات من قادتها وقادة أذرعها على مختلف الساحات السورية واللبنانية وحتى اليمنية، لكن كما يقال “غلطة الشاطر بألف”، فقد أخطأت طهران بحساباتها ووقعت بشر أعمالها بعد أن تجاوزت المعهود وخالفت المتفق عليه ضمنياً مع واشنطن، ذلك أنها خرقت قواعد الاشتباك المتعارف عليها بين الطرفين، وهذا الخرق جاء بموضعين أساسيين:
الأول: إن الميليشيات التابعة لإيران وعبر مسيراتها وبهجمات على قاعدة “البرج 22” داخل الأردن، قتلت ثلاثة جنود أميركيين وجرحت قرابة الـ40، ومقتل أو جرح العناصر الأميركية هو خط أحمر لدى الإدارات الأميركية سواءً كانت ديموقراطية أم جمهورية.
الثاني: إن إدخال الجغرافية الأردنية (وهي خارج قواعد الاشتباك) والزج بها كساحة مواجهة إيرانية-أمريكية، شكلت تحد واضح لإدارة الرئيس بايدن فاستوجب الرد والرد العنيف كما طالبت به رموز السياسة وسيناتورات الكونغرس الأميركي، الذين طالبوا بقصاص موجع ومؤلم لإيران وميليشياتها في كامل المنطقة، والبعض ذهب للمطالبة بقصف الداخل الإيراني.
إدارة الرئيس بايدن الديموقراطية، التي لم تغيّر أبداً من السياسة المتبعة في عهد الرئيس السابق باراك أوباما مع إيران وأذرعها من حيث تطبيق سياسة “الاحتواء”، إلّا أن بايدن نفسه بدا محرجاً وهو يستعد لعام انتخابي لا يحتمل الأخطاء، حيث أن مقتل جنود أميركيين وضغط الانتقام المطلوب أميركياً، أربك البيت الأبيض، وانتظر لأسبوع كامل ليرد على ما قامت به إيران في قاعدة البرج 22.
ستة أيام كانت كافية لإيران، وقادة الحرس الثوري الإيراني وقادة فيلق القدس العاملة في سوريا والعراق، للقيام بعدة إجراءات دفاعية، شملت إعادة الانتشار والتموضع لميليشياتها، وتفكيك ونشر منظومات القيادة والسيطرة والاتصال، والطلب من العناصر البقاء بمنازلهم عدا القائمين بواجب الحراسة، وكذلك شملت إجراءاتهم تفريغ مستودعات الصواريخ والذخيرة والطائرات المسيرة ومعظم الأسلحة الثقيلة، أما القيادات الإيرانية في سوريا فقد تم نقل الصف الأول منها لطهران مباشرة أما النسق الثاني فقد أُبعدوا إلى حمص وتدمر ودمشق.
الضربة الجوية التي نفذها الجيش الأميركي ليلة السبت الفائت فاجأت الجميع ليس بتأثيرها أو بنتائجها بل بضعفها وعدم تناسبها مع الجريمة التي اقترفتها إيران بحق الجيش الأميركي وهيبة الدولة العظمى التي تتصدر المشهد العالمي، وزاد الطين بلة خروج قائد أميركي ليقول أن الضربة أُعلمت بها بغداد وجرى التنسيق معها (أي أن معلومات الضربة وصلت مسبقاً لإيران)، بل أكثر من ذلك عبر تصريح يخالف كل مفردات ومبادئ الحرب التي تستوجب وضع الخصم في أسوأ الظروف وزيادة الضغط عليه أثناء الحرب، عندما تعلن إدارة البيت الأبيض عبر ناطقها إن الضربات الأمريكية لن تطال الداخل الإيراني، بعملية تطمينية لطهران غريبة الأطوار.
وصف الضربات الأمريكية بالضعيفة والهزيلة لم يكن جزافاً، بل كان يستند لمعايير وقواعد الحرب التي تقول أن الضربات الأولى من أي عملية عسكرية يجب أن تحقق على الأقل 50% من المهمة النهائية للعملية العسكرية، وأن تلك الضربات يجب أن تؤمّن بالحد الأدنى شل قدرات الخصم على القيام بأي أعمال هجومية لاحقة، وأن عنصر المفاجأة يجب أن يشكل صدمة تبعثر جهود الخصم على القيام حتى بالأعمال الدفاعية المنظمة، لكن كل ما سبق غاب ولم يتحقق بما أقدمت عليه الطائرات والصواريخ الأميركية التي استهدفت 85 هدف (كما أعلن البنتاغون) عبر 125 مقذوف عالي الدقة، ومع ذلك يخرج تقرير من واشنطن ليؤكد تصريح لمسؤول إيراني يقول: الضربات الأميركية لم تقتل إيراني واحد. (لأن جميع من قُتلوا كانوا من جنسيات مختلفة غير إيرانية تعمل ضمن ميليشيات إيران في العراق وسوريا).
وزيادة بـ”المسرحية” الأميركية الهوليودية (على ما اتفقت معظم الأطراف تسمية الضربة الأمريكية)، تم استخدام القاذفات الأمريكية B1) ) الأكثر تطوراً في العالم والتي انطلقت مباشرة من القواعد الجوية في ولاية تكساس الأمريكية لتنفذ ضرباتها على مواقع أذرع إيران في سوريا والعراق، باستعراض واضح لم يكن له من داع، فالقطع البحرية الأميركية المنتشرة في البحر المتوسط والبحر الأحمر والخليج العربي، عدا عن القواعد الجوية الأميركية في الشرق الأوسط، كانت قادرة على القيام بأضعاف المهام التي نفذتها تلك القاذفات.
هزالة الضربات الأميركية، بدل أن تشل قدرات أذرع إيران الهجومية في المنطقة بعد الضربة كما يُفترض بها أن تكون، دفعت ولاية الفقيه لاتخاذ قرار الرد على الهجمات الأميركية، فتم قصف بعض مواقع تمركز التحالف الدولي في شرقي الفرات السوري أدى لفقدان بعض عناصر قوات سوريا الديموقراطية حياتهم، وهم مشتركون بالدفاع عن القواعد الأميركية في المنطقة، إضافةً لهجمات متعددة طاولت القواعد الأميركية في العراق.
في توصيف الرد الأمريكي قال البيت الأبيض أن العملية ستستمر لأيام وقد تمتد لأسابيع، وأن عمليات استطلاع ما بعد الضربة ستحدد ماهية الضربات اللاحقة، وهذا ما حصل ليلة أمس عندما قتلت طائرات مسيرة (يعتقد أنها أميركية) ثلاثة من كبار قادة حزب الله العراقي داخل بغداد، والسؤال الأبرز اليوم: هل ضعف الضربات الأميركية سيقود المنطقة لحرب بين قوات سوريا الديموقراطية وميليشيات إيران في سوريا والعراق، أم أن واشنطن تعيد حساباتها وتستخدم إمكانياتها الضخمة بتصحيح ما فات عبر ضربات موجعة ومدروسة تهز أركان التموضع الإيراني في سوريا والعراق، وتعيد الأمور لنصابها وتوصل رسالة حاسمة لطهران مفادها: أخطأتم عندما قررتم اللعب مع الكبار؟