سوريا البلد الطارد لكل الأحياء فيه!

تقول لي ابنتي الوسطى ذات الثمانية عشر عاماً في نقاش طويل حول آفاق الحل في سوريا معلومةً دفعتني للتفكير خارج منظومات الحدث السياسي ومنعكساته التي لا ينتهي فيها الكلام، وعادةً إلى غير فائدة،  تقول الصبية: “إنّ أربعين من أصل خمسين طالباً من طلاب البكالوريا ممن شاركوا معها في البطولة الوطنية السورية للمناظرات (هي بطولة على مستوى المدارس الثانوية السورية) قد باتوا خارج البلد، وأنّ فريقها المؤلف من ثمانية أفراد بنفس العمر قد ابتلعته فعلياً مطارات العالم، وأنها لن تكون الأخيرة التي ستغادر سوريا على أمل العودة يوماً ما.

نبّهتني الصبية إلى أنّ استنزاف الأجيال الجديدة في سوريا قد وصل إلى الأعمار الصغيرة نسبياً، أي بين الرابعة عشرة حتى الثامنة عشرة، وهؤلاء كان يفترض بهم وبهنّ أن يكونوا نوعاً من النخب البديلة للنخب التي غادرت البلاد وتغادرها منذ بدأت الأزمة الراهنة وربما قبل ذلك بكثير، وفي سبيل دعم حجتها ذكرت الصبية أنّ كل، فعلياً كل، مدرّبيها من عمر العشرين إلى الخامسة وعشرين في فرق المناظرة قد باتوا أيضاً خارج أسوار البلاد، وبجوارهم طبعاً آلاف مؤلفة من النخب العلمية والأكاديمية والاقتصادية المنتمية إلى أجيال بنفس الأعمار الصغيرة أو أكبر قليلاً، وتذكر تحقيقات صحفية أنّ في ألمانيا وحدها اليوم أكثر من عشرة آلاف طبيب سوري أعمارهم بين الخامسة والعشرين حتى الخامسة والثلاثين.

كلمة “سوري” هنا لا تخص فقط مناطق النظام بل تشمل بقية الجغرافيات الأخرى التي على ما يبدو ليست بأحسن حالاً في تحويلها كتلة الشباب إلى كتل مطرودة من نعيم اﻹدارات المتكاثرة والتي هي كما يفترض إدارات بديلة ﻹدارات البعثيين الفاشلة، إلا أنها على ما يبدو أيضاً لم تستطع الفكاك من إغراء السلطوية والتحكم بالبشر والتناحة، واعتماد آليات حديثة يمكنها إقناع الشباب خاصة، بالحسنى، بعدم “ضب الشناتي”.

هذه النخب الصغيرة التي تغادر وتلحقها في الرغبة نخب متنوعة في مجالات كثيرة، لن تترك فراغاً ملحوظاً في بلد سكانه يتزايدون فوق المعدلات العالمية، وفي ظل عدم القدرة على إنتاج نخب حقيقية يستغرق إعدادها سنوات طويلة مرةً جديدة، فإنّ من سيبقى ودون تعميم واسع، سيكون مجموعات من الفاشلين الفارغين من كثير من قيم النخب التي هي بالعادة من يبني مستقبل أي بلاد.

غالبية الأهالي المدركين أن الأبواب مغلقة في هذا البلد إلا لـ”ناس وناس”، يعملون بدأب شديد ﻹيصال أولادهم المميزين إلى محطات السفر المتاحة عبر المنح أو المدارس أو الجامعات أو حتى عبر العلاقات مع أصدقاء وأقارب ومن كل الطوائف، وهي مفارقة أنّ الطوائف تساعد بعضها على الخروج من السجن السوري بكل الوسائل المتاحة، كما أنّ الأولاد الشباب يعملون هم أيضاً على الخروج من فشل مقيم حولهم وبتعاون يمكن لمسه في انتشار عشرات المنصات المتخصصة في أمور المنح والسفر والإقامات.

هذا الكلام ليس مصادرة على عموم هؤلاء الشباب، ففي ملاحظات ميدانية متعددة قد ترقى لتكون “ظاهرة”، فإنّ الباقين من شرائح الشباب مقسّمين على كتلتين، الأولى هي نتاج الأنظمة التعليمية السورية الفاشلة، وتحديداً أولئك الفاشلين الذين تجاوزوا الثانوية العامة بطرق غير شرعية وحققوا علامات عالية، وسيكونون من “النخب” الوهمية باعتبار أن كثيراً من الجامعات السورية تعيش نفس فشل النظام التعليمي الثانوي من فساد ورشوة وتخلف عن مسايرة تطورات العلم والعالم تربوياً ودراسياً، والثانية عكس هذه الشريحة، وهم من بذلوا جهوداً عظيمة للخلاص من سماجة النظام التعليمي السوري ولكنهم غير قادرين على النفاذ بجلدهم من السجن السوري العظيم لأسباب اقتصادية بحتة، وفي الحالين نحن أمام نسخة نخب باهتة إن لم نقل فاشلة في ظل انحسار الفرص في السوق كما في سلك الدولة لأبناء الكتلة الأولى وتحوّل الكتلة الثانية إلى مهن غير مؤثرة في القيمة الإجمالية للناتج المحلي الوطني وهي مهن أقرب للبطالة المقنعة.

المشكلة في هذا الكلام ليست تربوية، وليست في النظام التعليمي، وإن كانت متضمنة في قلب النظام التعليمي، بل إنّ موقعها في فضاء أوسع، إذ تقول الصبية الصغيرة إنها انتبهت في نقاش مع أصدقاء من جيلها بأنّ كل نقاش حول مسائل التغيير في سوريا على مستوى الطلاب والشباب ينتهي عند نقطة فاصلة، هي أنّ كل سلاسل الفشل هذه يمكن أن تتفرمل عند ظهور “حل سياسي للحالة السورية”، ولكن الحل السياسي غير متوقع قريباً.

أفكّر، وأنا المشتغل بالسياسة السورية منذ ربع قرن على الأقل، أنّ “الحل السياسي” كان كلامنا في مختلف التنظيمات السياسية التي عشنا معها أو كنا فيها منظّمين منذ ثمانينيات القرن العشرين حتى العقد الحالي من هذا القرن، يساراً يميناً، و”هل غادر الشعراء من متردّم؟”، يبدو أن لا أحد غادر تلك الحلقة المفرغة.

هذه الأجيال الجديدة لم يعد أمامها في هذه البلاد أي بصيص أمل، وحتى لو فرضنا (انطلاق) الحل السياسي بعد عام أو عامين، فإنه سيحتاج سنوات حتى يصل إلى مرحلة الحل المنجز والواقعي، وتجربة القرار الأممي 2254 ما تزال راهنة، كما أن استقرار اﻷوضاع والأحوال والنظم العامة من تربية وتعليم وإنتاج وزراعة وغيرها يحتاج على الأقل عقدين حتى يستعيد المجتمع، قبل الدولة، عافيته، وتجربتنا ليست الأولى في عالم اليوم، والعمر ليس مجانياً، ومن حق هؤلاء المندفعين إلى الحياة (الشباب) العيش بكرامة وأن يحققوا أحلامهم الشخصية قبل العمومية، وإذا كان النظام الحاكم حالياً في سوريا متفرغ فقط لمصالحه وشؤونه، متجاهلاً الآخرين وهمومهم، فإن من حق شرائح الشباب البحث عن سبل خلاص بعد أن أعيت الحيلة السوريين جميعاً في الخلاص من نظامهم السياسي، ﻷسباب باتت معروفة لدى الجميع، وأكاد أعتقد جازماً أنه لو فتحت أبواب الهجرة ساعات فقط، ﻷي جهة في العالم، فإنّ نصف مؤيدي النظام سوف يركبون أول وسيلة نقل تسفّرهم من جنة هذه البلاد، وبغير أسف طبعاً.