رغم ملفات جرائم الحرب وانتهاك حقوق الإنسان الموثقة في سوريا، ورغم صور قيصر الـ 55 ألف المسربة من المعتقلات السورية، وشهادات “محاكمات كوبلنز” وشهادة حفار القبور وجرائم ما عرف بـ”حفرة التضامن”؛ إلا أنه إلى اليوم لم يزل ملف المعتقلين وطريقة إدارته لا يرتقي لمستوى الجريمة الموقعة بحق السوريين! والأدهى من هذا يصر النظام في الآونة الأخيرة أن لا معتقلين لديه بل هم مطلوبين للمحاكمات السورية بتهم جنائية تصل لدرجة تهم بالإرهاب، ويتم تسويق روايته هذه دولياً وإعلامياً ويجهد السوري في نفي التهم عنه، هذا إن تمكن من ذلك!
كانت تهم “وهن نفسية الأمة” و”العمل ضد الوحدة العربية والاشتراكية في الدولة”، قد واجهت شريحة واسعة من السوريين في العقود الماضية. التهم التي فتحت أبواب المعتقلات أمام السوريين دون محاكمات ودون مرجعية قضائية مستقلة، سوى قرار قاضٍ عسكري في أمن الدولة! فليس غريباً أن من وجهت لهم هذه التهم هم أنفسهم ممن كانوا يعملون لأجل “الوحدة والحرية والاشتراكية”.
هذه الوصفات الجاهزة من التهم وُجهت لكل من خالف رأس السلطة أو ظن أنه منافس له، بدعوى لإزاحتهم عن موقع الاستفراد في حكم سوريا؛ وليس فقط، بل تم تجهيز جيش من المخبرين المجيّشين من حزب البعث يعملون على كتابة التقارير بحق كل صاحب رأي بذات المضمون من التهم الجاهزة التي ابتكرتها سلطة النظام السوري، لتمتلئ المعتقلات بأصحاب الرأي بتهم هم براء منها، بينما فعلياً العاملون على نهب البلد وسرقته وترويج الرشاوي هم باتوا أسياده، حتى باتت “الجريمة” حياة طبيعية.
في أعوام الثورة تعددت أنواع التهم وباتت أكثر فظاعة وانتهاكاً: التعامل مع الخارج، التآمر على الأمة، التمويل الخارجي، الإرهاب وتشكيل خلايا إرهابية والانتماء لجماعات مسلحة… تهم حولت غالبية السوريين لمتهمين بشتى أنواع الجريمة التي تبرر تفعيل الأدوات الأمنية والعسكرية بالقتل والاعتقال التعسفي، إضافة لتفعيل جملة من النصوص القانونية الجديدة تبرر المجازر التي ارتكبت وترتكب بحق السوريين، خاصة ما عُرف بمحكمة الإرهاب. وليس هذا وحسب، بل تحولت ملفات المعتقلين وأصحاب الرأي في السنوات الأخيرة إلى ملفات جنائية تحول لمحكمة الإرهاب. إذ باتت التقارير الأمنية بالشخصيات “المعارضة” تحول على أنه يعمل في تجارة الممنوعات ومنها المخدرات والأسلحة، لتصبح تهمة المعارض جنائية بدلاً من “سياسية”، فيما يسرح تجار المخدرات والسلاح والممنوعات ويمرحون في البلاد وببطاقات أمنية ودعم غير محدود!
درجت سلطة النظام وأجهزته الأمنية في السنوات الأخيرة على الترويج بأنها “دولة قانون وقضاء”، وأنه لا معتقلين لديها، بل مجرّد متهمين بأحكام جنائية يحاسب عليها القانون، حيث قامت بتعديل النصوص القانونية بما يحقق لها الاستمرار في تلميع صورتها أمام الرأي العام العالمي والعربي، ومنها بعض القوانين التي تتعلق بـ”جرائم الشرف” وحق وصاية الأم، وبعض الحقوق المتعلقة بالمرأة ومحاربة الفساد وغيره… ويبدو هذا جيداً من حيث المبدأ وقد مسّ شريحة مهمشة وساعية لتحصيل حقوقها المهدورة. لكن لم يكن الأمر كذلك كلياً، فقد عملت هذه السلطة منذ بداية عام 2011 على جملة من التغييرات المتسلسلة، أثبتت الوقائع شكليتها وزيف محتواها.
فمنذ بدء الثورة السورية عام 2011، وسلطة النظام السوري تفعل كل ما يجعلها تظهر كسلطة شرعية ودولة ديموقراطية حديثة. منها تغيير بعض النصوص والقوانين المركزية التي تطال بنية النظام السياسي الحاكم، بحيث تظهرها مستجيبة لمطالب الحركة السلمية الشعبية في الديموقراطية والحرية وتغيير نظام الحكم. فبعد رفع شعار محاربة الإرهاب وحماية الأقليات، قامت بعدة إجراءات متتالية تستهدف الشكل دون المضمون لتلميع وتسويق صورتها التي تريد؛ فألغت قانون الطوارئ والأحكام العرفية المعمول به منذ 1963، واستبدلته بقانون الإرهاب الصادر عام 2012، الذي حوّل غالبية الشعب السوري لإرهابيّ وجبت محاربته. وقامت بإصدار قانون الإدارة المحلّية عام 2011، واستبدال دستور عام 1973 بدستور 2012 وتغيير بعض بنوده المتعلقة بالمادة الثامنة التي تضع حزب البعث في قيادة الدولة والمجتمع، تحقيقاً للديموقراطية التي تزعم…
محاولات النظام تلميع صورته بأنه نظام ديمقراطي قابل للتغيير من تلقاء نفسه كشفت زيفه وقائع ومجريات الحدث السوري؛ من استخدام السلاح الكيمياوي ضد السوريين، وسلاح الطيران الذي استخدم للدمار العام في البنية المادية والسكانية السورية التي أتت على دمار 40% من البنية التحتية وتهجير ما يزيد عن 13 مليون سوري واقتلاعهم من تاريخهم وبيوتهم وبيئتهم الاجتماعية، وصولاً لملفات الإجرام والقتل الفردي والجماعي كأدلة دامغة على استبداده وزيف ادعائه. فمنذ اعتقال أطفال درعا قبيل انطلاق الثورة السورية، وصولاً لملفات مئات الآلاف من المعتقلين والمغيبين قسراً، لم يزل هذا الملف محط بازار سياسي قيد التداول. ورغم أن القرار 2254 أفاد بأن ملف المعتقلين ملف إنساني غير قابل للتفاوض، ودعا للإفراج عنهم وكشف مصير المغيبين قسراً باعتبارها إجراءات تعبّر قد تعكس نوايا حسنة للتفاوض على الانتقال السياسي، حسب نص القرار، لكنّ هذه الإجراءات تم التلاعب بها بشتى الطرق، إذ كشفت الكثير من التقارير والأحداث المعاشة، أن عدداً كبيراً من المعتقلين سجلوا في قيود النفوس على أنهم موتى بالسكتة القلبية، وذلك حين مراجعة ذويهم لسجلاتها لسبب أو آخر، فيما هم معتقلون تمت تصفيتهم بالمعتقلات. كما تمّ تحميل ملفات الاعتقال والمجازر المرتكبة بحق السوريين لأفراد في أجهزة السلطة، واعتبارها أخطاء فردية لا تتعلق ببنية النظام ذاته! فضلاً عن تبرير محاكمات أمن الدولة التعسفية عبر محاكمات الإرهاب سيئة الصيت والسمعة. كذلك تحويل ملفات الكثير من المعتقلين أو أصحاب الرأي المعارضين في الداخل السوري إلى ملفات جنائية بتقارير أمنية كيدية، والعمل على ابتزاز أصحابها مالياً وسياسياً.ومصادرة أموال وممتلكات المعارضين السوريين بحجة الإرهاب ودعمه. وكل ذلك في ضوء تلاعب مكشوف بالنصوص القانونية وتزييف للحقائق دون وجود لجان رقابة أممية أو دولية عليها.
إن متابعة الجرائم المرتكبة بحق الشعب السوري وكشف زيف إدعاءات النظام السوري بأن السوريين إرهابيين بالجملة، هو النور الذي نهتدي به للعدالة والإنصاف، ويجب أن يبقى هذا السراج مناراً حتى لو طال زمن تحقق العدالة والحرية.