واشنطن وطهران: عودة أميركية للمنطقة

ما كان من الممكن أن تنشب حرب تموز 2006 في لبنان لولا بدء عملية تصادم أميركية- إيرانية  بمبادرة من طهران قبل أحد عشر شهراً من الحرب، مع استئناف إيران لبرنامج تخصيب اليورانيوم ، وهو ما تناقض مع التقارب الأميركي- الإيراني منذ عام 2002، مع اتجاه واشنطن عقب أحداث 11 سبتمبر2001 نحو إسقاط نظام صدام حسين في العراق، وتناقضٍ مع تعاونهما في تشكيل “اليوم التالي العراقي” عام 2003 عبر “مجلس الحكم” الذي شكًله الحاكم الأميركي للعراق بول بريمر والذي ضم أغلبية موالية لطهران.

حدثت تلك الحرب بالوكالة بين واشنطن وطهران، وانتهت لعدم استطاعة إسرائيل تحقيق أهدافها في تلك الحرب، التي حدّدها رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت في 1- إبعاد حزب الله اللبناني لشمال الليطاني 2- جعل حزب الله في وضع غير تهديدي لإسرائيل. وكانت الحرب مدخلاً لتمدد إقليمي إيراني في عموم المنطقة بدأ فصله الأول عام2007مع سيطرة حركة حماس على قطاع غزة، وكان ثانيه سيطرة حزب الله على المشهد السياسي اللبناني عقب عملية 7 أيار 2008 في بيروت، وكان ثالثه استطاعة طهران تمكين نوري المالكي من رئاسة الوزارة من جديد في 25 تشرين الثاني/نوفمبر2010 ومنع صعود إياد علاوي وقائمته”العراقية” التي نالت المرتبة الأولى في الانتخابات البرلمانية، ثم كان رابعه سيطرة جماعة الحوثي على صنعاء عام2014. وإذا أخذنا تصريح الجنرال رحيم صفوي،القائد السابق للحرس الثوري الإيراني، عام2013 بأن “إيران هي القوة الإقليمية العظمى” كتوصيف لنتائج هذا التمدد، فإن إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما يبدو أنها كانت تتجه، وهي تعلن في عام 2011 عن “سياسة الانزياح للتركيز على الشرق الأقصى لمواجهة الصين “بالترافق مع اكتمال الانسحاب الأميركي العسكري من العراق، ونحو سياسة إرضائية إحتوائية لطهران لإبعادها عن بكين  بوصف الطريق الإيراني هو الممرّ الرئيسي للصين إلى منطقة الشرق الأوسط، هذه السياسة الإرضائية لطهران التي تجسدت في اتفاق عام 2015 حول البرنامج النووي الإيراني الذي هو عملياً قبول أميركي بالمكاسب الإقليمية الإيرانية ضمنياً مقابل إيقاف طهران برنامج التخصيب النووي، هذا غير الترجمة الإقليمية اللاحقة لصالح إيران من ذلك الاتفاق المتمثلة في انتخاب ميشال عون رئيساً للبنان وهو الذي كان واجهة لحكم حزب الله وتغلغله في المؤسسات اللبنانية.

إذا نظرنا للوراء نجد أن  حرب 2006، وسياسة الرئيس الأميركي دونالد ترامب2017-2021 في التصادم مع إيران، كانتا خروجاً على سياق عام أميركي بفترة 2002- 2024، وهو الذي وصف اتفاق 2015 مع طهران بأن “أسوأ اتفاق في التاريخ” ثم سحب التوقيع الأميركي عليه عام 2018، وقد رأينا كيف سارع الرئيس بايدن عام 2021 بعد هزيمته لترامب بالانتخابات، إلى بدء مفاوضات فيينا مع الإيرانيين  لإعادة إحياء الاتفاق النووي، والملفت للنظر أن طهران هي التي أفشلتها في شهر آب/أغسطس2022عندما رفضت المقترح الوسطي  لمفوض الخارجية للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل  للتجسير بين موقفي الولايات المتحدة وايران، ثم اتجهت نحو تزويد روسيا بمسيّرات إيرانية أصبحت تتقاطر على الأوكرانيين، ويبدو أن قراءة في طهران كانت ترى بأن ظرف الحرب الأوكرانية يتيح لإيران  مكاسب ووضعية أفضل من الذي عرضه بوريل، وخاصة مع تصريح الدكتور كمال خرازي، مستشار السيد علي الخامنئي لقناة “الجزيرة” في الشهر السابق لاقتراح بوريل، بأن “إيران تقترب من أن تكون دولة عتبة نووية” بعد استئنافها لبرنامج التخصيب عقب الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي .

خلال الفترة التي تفصل عن يوم 7 أكتوبر2023، وبدء الحرب في غزة ، قيل الكثير عن أن هذه الحرب هي حرب بالوكالة بين واشنطن وطهران، من خلال علاقة حركة حماس بطهران ومن خلال فتح حزب الله  اللبناني عملية المجابهة “المضبوطة”مع إسرائيل وعبر ضرب الحوثيين للسفن المارة من وإلى إسرائيل في البحر الأحمر وخليج عدن.  ولكن، هناك مؤشرات معاكسة لذلك منها منع واشنطن الصريح لتل أبيب من شن حرب على لبنان، من الواضح بالأسابيع الماضية أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في حالة تلهف لها ، ومنها منع طهران لحلفائها في بيروت وصنعاء وبغداد من تطبيق “وحدة الساحات” مع غزة ما بعد7 أكتوبر وسط تصريحات إيرانية عديدة، تلاقت مع تصريحات أميركية مماثلة، عن “اللارغبة في توسيع الحرب”.

هنا، نجد أن الجديد في مشهد حرب غزة يتمثل في أن الولايات المتحدة قد ضبطت إيقاع هذه الحرب منذ أيامها الأولى عبر تحديدها للنطاق الغزاوي لها ومنع نشوب حرب إقليمية يريدها نتنياهو ليس فقط مع حزب الله بل مع إيران نفسها، كما أن “دبلوماسية البوارج الأميركية ”  المتمثلة في حاملتي طائرات وفي غواصة نووية، أرسلت للمنطقة ، قد أقنعت طهران بالتكلفة المرتفعة لـ”وحدة الساحات”، والأرجح أن هذا الدخول الأميركي المباشر في حرب غزة مرده عودة أميركية للمنطقة الشرق أوسطية نقيضاً لسياسة أوباما الانسحابية منها عام2011 ورأينا ملامحها في عام2023 مع (مشروع الكوريدور الهندي- الشرق أوسطي- الأوروبي) الذي تم التوقيع عليه في الشهر السابق لحرب غزة، وهو قطع للطريق على طريق (الحزام والطريق) الصيني وبحث عن مصدر شرق أوسطي بديل عن الطاقة الروسية بفرعيها النفطي والغازي للأوروبيين بعد الفالق التصادمي بين موسكو، وبين الغرب الأميركي- الأوروبي منذ حرب2022الأوكرانية، كما أن هذا “الكوريدور” يمثل عودة أميركية نحو سياسة “إعادة صياغة أميركية” للمنطقة ، كانت تتالى تصريحاتها بين 11سبتمبر، واحتلال العراق، حيث بجوانب الكوريدور الاقتصادية هناك متممات سياسية منها التطبيع السعودي- الإسرائيلي، رأى يحيى السنوار أن الأخير إن حصل سيكون أكثر وبالآً على حركة حماس مما كانت اتفاقيات كامب دافيد- 1978على منظمة التحرير الفلسطينية، والأرجح أن دافعه الرئيسي إلى عملية 7 أكتوبر يكمن في محاولته منع حصول هذا التطبيع أو عرقلته، ويبدو أن الانخراط الأميركي الكثيف في حرب غزة هو من أجل جعل هذه الحرب مدخلاً إلى هذا التطبيع عبر حل الدولتين، ويعرف الرئيس الأميركي جو بايدن أن هذا يتطلب تغييرات فلسطينية  وإسرائيلية تتجاوز السنوار ونتنياهو من أجل الوصول إلى هذا الحل الذي سيكون أساساً سياسياً يجعل المنطقة في وضعية ملائمة لبناء (الكوريدور) عبر المستتبعات التطبيعية العربية لحل الدولتين، فيما كان نتنياهو، والكثير من الإسرائيليين، يراهنون منذ التطبيع المصري مع اسرائيل عقب “كامب دافيد” بأن التطبيع العربي سيكون وفق معادلة “السلام مقابل السلام” وليس “السلام مقابل الأرض| بمايعنيه الأخير من “حل الدولتين”.

كتكثيف: إن انتهت حرب غزة وفق ماتعلنه وتريده واشنطن، فإن هذه الحرب لن تكون مشابهة لحرب 2006 التي كانت بداية للمدّ الإيراني في إقليم الشرق الأوسط ، بل بداية للعكس، على شاكلة ما جرى في السبعينيات من مد للنفوذ الأميركي بالمنطقة على حساب المد السوفياتي الذي بدأ بالخمسينيات. وهذا إن حصل لن تكون ترجماته بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط فقط، بل في عموم إقليم الشرق الأوسط أيضاً، وخاصة في الأماكن التي تتجاور فيها واشنطن وطهران وتمارسان النفوذ .