إسرائيل وإيران.. ضربات استباقية و “صبر استراتيجي”

مما لا شك فيه أن العملية الجوية الإسرائيلية الأخيرة في حي المزة بدمشق كانت عملية نوعية وأطاحت بأهداف إيرانية كانت تبحث عنها إسرائيل بجديّة. العملية الأخيرة كسائر عمليات الاغتيال المفضوحة تحتاج لتحضير ومتابعة وتدقيق، وتعتمد على مصادر معلومات متعاونة لأن الوقت المتاح للتنفيذ وتحقيق المهمة قد يكون دقائق قليلة ويجب الإجهاز فيها على الهدف، وبطبيعة الحال تمتلك إسرائيل كل أدوات الاستطلاع والمراقبة والتجسس وحتى العملاء الميدانيين، وفوق ذلك لديها تقنيات إلكترونية هائلة.

ما رشح عن عملية اغتيال القياديين الخمسة في دمشق “حجة الله (الصادق) أميد وار، وعلي آقا زاده، وحسين محمدي، وسعيد كريمي، في قصف دمشق أنها اعتمدت على تقنية “بصمة الصوت” إضافة لمصدر آخر لتأكيد هوية الهدف، لكن ما كان بارزاً هو إيلاء إسرائيل أهمية خاصة للعملية من خلال اختيار أدوات التنفيذ (3 طائرات حربية متطورة) واستخدام صواريخ ذات قدرة تدميرية عالية، استطاع كل صاروخ منها تدمير مبنى كامل مكون من أربع طبقات تدميراً كاملاً، وهذا يؤشر لعلمهم المسبق بهوية الهدف الثمين الذي سيتم التعامل معه.

تكتيك “الحرب بين الحروب” أو الضربات الاستباقية نجحت فيه إسرائيل حتى الآن بالعديد من العمليات التي نفذها الموساد الإسرائيلي ضد أهداف إيرانية أو ضد أذرع إيران سواءً داخل إيران أو خارجها، وتعتبر تل أبيب تلك العمليات نوع من الدفاع المتقدم لأمنها، حيث شملت أعمال الاستهداف تارة شخصيات عسكرية واستخباراتية كبرى مثل عملية اغتيال عماد مغنية “الرجل الأهم في حزب الله” أو اغتيال شخصية علمية كبيرة في المشروع النووي الإيراني من حجم محسن فخري زادة، إضافة لعشرات القياديين في “الحرس الثوري الإيراني” و”فيلق القدس” ومن ميليشيات عربية تتبع لإيران.

لكن الملاحظ في عمليات الاغتيال الأخيرة التي نفذتها وحدات إسرائيلية بمختلف تبعياتها، أنها كانت كثيفة ونوعية لكنها خرجت عن قواعد الاشتباك المعمول بها في مناطق التماس أو المناطق الساخنة التي تتشاركها إيران وأدواتها مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، وهذا ما دفع الموساد الإسرائيلي وبأوامر من قيادته السياسية لإخفاء عملية التحضير لاغتيال “رضي موسوي”، المسؤول الأكبر عن كامل الدعم اللوجيستي لميليشيات إيران في سوريا ولبنان، عن الولايات المتحدة وعن الرئيس الأميركي “جو بايدن” لإدراك “نتنياهو” المسبق أن واشنطن لن تمنح الضوء الأخضر لتلك العملية ولن توافق عليها وقد تُفشلها عند الضرورة.

تحاول الإدارة الأميركية الحالية (الديمقراطية) جاهدةً حصر ساحة الحرب في قطاع غزة، وعدم السماح بتوسيع رقعتها لأي مساحة جغرافية إضافيّة، وقد تتشارك معها إيران بتلك الجزئية لكن الأخيرة تعوّض طموحها عبر تحريك أدواتها، وهذا ما فعلته إيران عندما حركت ميليشيا الحوثي لتهديد خطوط التجارة العالمية في مضيق باب المندب عبر الإدعاء بمناصرة غزة والمساهمة بحصار إسرائيل بحراً، أو عبر تنشيط ميليشياتها في العراق وسوريا من خلال قصف القواعد الأميركية ونقاط انتشارها، أو عبر مناوشات لا تخرج عن قواعد الاشتباك في جنوب لبنان عبر أداتها “حزب الله”.

“الصبر الاستراتيجي” الذي أعلنته قيادات عسكرية وسياسية إيرانية كان شعاراً حاول من خلاله الحرس الثوري الإيراني الهروب من كثير من الاستحقاقات الملزمة بالرد، وبرز هذا “الصبر الاستراتيجي” بوضوح عقب عملية اغتيال الجنرال “قاسم سليماني” قائد فيلق القدس وكثير من العمليات، قبلها وبعدها، استطاعت فيها إسرائيل توجيه ضربات استباقية ومباشرة لميليشيات ولاية الفقيه وتوابعها وأصابتها بمقتل، وكان الرد الإيراني أنها تتمسك بـ “صبرها الاستراتيجي” كما يتمسك بشار الأسد بحق الرد بالزمان والمكان المناسبين الذي مضى عليه ما يفوق الـ20 عاماً ولم يأتِ هذا الزمان ولا ذاك المكان، لذلك استبدله نظام الأسد مؤخراً في بياناته العسكرية بعبارة “تصدت وسائط دفاعنا الجوي لعدوان إسرائيلي وأسقطت عدد من الصواريخ” دون الإشارة للرد أو لأي عمل يقابل هذا العدوان.

تُدرك إيران أن ثمن “النخوة العسكرية والوطنية” والرد على اغتيال قادتها سيكون مكلفاً وبشكل باهظ، ليس فقط بسبب قدرات إسرائيل المتفوقة نوعياً وتقنياً على الجيش والحرس الثوري الإيراني، بل لأنها تدرك أيضاً أن وجود أربع حاملات طائرات أمريكية مع أكثر من 20 مدمِّرة وغواصة وقطعة بحرية تضاف للأسطولين الخامس والسادس في المتوسط والخليج، مع أسراب جوية حديثة عززت القواعد الأميركية في الشرق الأوسط والخليج، باعتبار أن تلك القوات ليست قادمة للنزهة أو للاستعراض فقط، وأن الإدارة الأميركية قد تمارس سياسة الضغط على نتنياهو وقادة اليمين المتطرف لمنع توسيع رقعة الحرب خارج قطاع غزة، لكنها لن تتوانى عن إقحام كل تلك القوات بعمليات دفاعية عن إسرائيل إذا ما تعرضت تل أبيب للخطر، أو إذا ما تعرضت قواعدها في سوريا والعراق لهجمات خارج قواعد الاشتباك المتوافق عليها.

أيضاً إيران تُدرك أن “صبرها الاستراتيجي” قد تحصد من خلاله لاحقاً هدايا معينة من الغرب والعم سام إلا إذا وصل الرئيس “ترامب” للسلطة وهو ما ترجحه الكثير من دوائر الاستطلاع، وهذا ما يعوّل عليه رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو بمحاولة تهيئة الظروف المناسبة لجر الولايات المتحدة الأمريكية لحرب شاملة في المنطقة تستطيع من خلالها إسرائيل محو وصمة “7 أكتوبر” وعملية “طوفان الأقصى” التي هزت إسرائيل، وثمار نتنياهو لا تنحصر بتلك فقط بل تتعداها للتعويض والإصلاح لخطأ استراتيجي ارتكبته تل أبيب وواشنطن عندما غضت الطرف عن تدخل الحرس الثوري الإيراني وحزب الله في سوريا إلى جانب بشار الأسد للحفاظ على نظامه الآيل للسقوط حينها.

فهل ينجح نتنياهو وعبر تكتيكات الضربات الاستباقية وحرب بين الحروب من جر إيران والولايات المتحدة الأميركية لمواجهة تكون خمس دول عربية مع بحارها على الأقل ساحة لمجرياتها أم أن “الصبر الاستراتيجي” الإيراني المدعوم أمريكياً سيُخمد حرباً لا تبقي ولا تذر؟