بيريفان محمد.. مستشارة عائلتها التي أودى هجوم طائرة تركية بحياتها
نالين علي – نورث برس
لوّحت بيريفان محمد (33 عاماً) بيديها لوالدها الذي أوصلها، صباح يوم الميلاد عام 2023، لمكان عملها في مطبعة سيماف في القامشلي، قبل نحو ساعة من إصابتها ثم استشهادها في قصف طائرة تركية للمكان.
كانت تلك لحظة الوداع بين زبير محمد وابنته البكر التي كان يسعى دوماً لإبعادها عن المخاطر، ويجهد لمعرفة ما يمكن أن يسعدها.
ورُزق الوالدان بابنتهما البكر بيريفان في العام 1990 بعد عشرة أعوام من الزواج، راجعا خلالها أطباء في دمشق وحلب والقامشلي لحل مشكلة عدم الإنجاب.
وأنجب الزوجان بعدها ثلاثة أولاد ذكور، فبقيت بيريفان الفتاة المدللة التي أصبحت شابة واعية وودودة مع الجميع في العائلة ومحيطها ومع الجيران والأصدقاء.
وأكملت الفتاة دراستها في المعهد التقني بالحسكة، لكنها لم تتمكن من الحصول على شهادة تخرجها بسبب ظروف الحرب.
وتميزت بيريفان، وفق والديها وزميلاتها، بأنها لم تكن متطلّبة، تحب عملها، وتعتبر سلامة أفراد عائلتها ورضاهم سعادة تقنع بها.
كان الموعد اليومي لاجتماع العائلة بعد عودة الجميع من أعمالهم مساء، بينما بقي يوم الجمعة مخصصاً لترتيب المنزل والاجتماع معاً حول المائدة.
وتتذكر الأم: “في أمسية كنا مجتمعين حول المدفأة، سألتني عما إذا كنت أفضّل الأولاد الذكور على الإناث كما غالبية النساء في مجتمعنا، أجبت بأنها تعلم مكانتها عندي”.
بيريفان مستشارة عائلتها، وحريصة على صحة أمها وغذائها، فتنتقدها: “أتنصحينني وأنا أمك؟”، لترد الفتاة بوعي وجرأة.
فرصة عمل
ومنذ سبعة أعوام، حصلت بيريفان على فرصة عمل كمحاسبة في مطبعة سيماف، ثم انتقلت بعد أشهر للعمل كأمين مستودع.
وبدت سعيدة في وظيفتها، ومتفاهمة مع فريق العمل الذي يصفه والدها بالعائلة الصغيرة المتفاهمة.
وتأسست مطبعة سيماف في القامشلي بعد عام 2011 حين ضعفت السلطة الحكومية التي كانت تمنع المطبوعات باللغة الكردية وتلك المخالفة لسياساتها حتى لو كانت بالعربية.
وقامت المطبعة بإصدار العشرات من الكتب لمؤلفين من المنطقة، بالإضافة لصحف ومجلات محلية.
واعتمدت الإدارة الذاتية على مطبعتي هركول في ديريك وسيماف في القامشلي في طباعة كتب مدرسية لمناهجها باللغات الكردية والعربية والسريانية.
واحتوت المطبعة آلات حديثة لطباعة الورق وقصّه، فيما اعتمدت على ورشات من العاملات والعمال لتجميع الكتب وتغليفها يدوياً.
أيقظت بيريفان، صباح يوم الإثنين 25 كانون الأول/ يناير، والدها لتطلب منه إيصالها لمكان عملها، فقد تأخرت في الاستيقاظ، ولم تتمكن من الخروج في موعد مجيء السيارة المخصصة لنقل موظفي المطبعة.
سمعت الأم الحديث ولم تشأ النهوض لأن ابنتها ستلاحظ علامات التعب عليها، ما سيدفعها للامتناع عن الذهاب لعملها.
يقول الأب: “عندما وصلنا للمطبعة كان رياض هناك (استشهد أيضاً في القصف)، سلمت عليه وتبادلنا المزاح، دعاني لشرب الشاي فاعتذرت لأني ما زلت أرتدي البيجاما، غادرت ولوّحا لي بأيديهما مودّعَين”.
ولم يكن الموظفون في مطبعة سيماف يحصلون على إجازات خلال العطل الرسمية، فلا استراحة لهم غير العطلة الأسبوعية يوم الجمعة.
دخان ورحيل
وبعد نحو ساعة، دوت أصوات ضربات الطائرات التركية في المدينة، خرج بعض موظفي المطبعة للخارج ثم عادوا لعملهم.
توجهت بيريفان لقسم التجميع حيث الفتيات يجمعن الأوراق المطبوعة، وشاركتهن الحديث عن مخاوفهن من القصف هذا اليوم، وطلبن منها البقاء بدل البقاء وحدها في مكتبها.
وتتذكر إحدى العاملات أن بيريفان الرقيقة المبتسمة دوماً، كانت متوترة كالجميع ذلك اليوم، وغادرت قسم التجميع نحو قسم مكتب للتصميم قريب من الباب الرئيسي للمبنى.
وفي المنزل، سمع أفراد العائلة صوت الانفجارات، خرج الوالدان واثنان من أولادهما لسطح منزلهم، فشاهدوا الدخان الأخير في الشمال (ناحية المطبعة)، فنزل الأب وتوجه وحده للمطبعة.
“عندما دخلت المبنى لم أجد هناك غير طواقم الإطفاء والطوارئ، الدماء منتشرة على الأرض والزجاج المكسور في كل مكان، سألت عن الموظفين، لا أحد يجيب”.
هرع الأب لمكتب ابنته، كان كل شيء في مكانه، الكمبيوتر ومعطفها وفنجان قهوتها، لكن بيريفان ليست هنا.
بعد لحظات تلقّى اتصالاً من زوجة ابنه: “عمي! أسعفوها لمشفى العين والقلب”.
في المشفى القريب منزل العائلة في حي العنترية، كان المدخل مزدحماً بذوي الشهداء والمصابين، الدخول ممنوع حتى يتمكن المسعفون والأطباء من الالقيام بعملهم.
يضيف الأب: “احتراماً للجميع التزمنا بالانتظار”.
وخرج مدير المشفى، الطبيب محمد علي عبدي، وهو من معارف العائلة، وأخبر الوالدين باستشهاد بيريفان فور وصولها للمشفى، متوجهاً للأب: “لم أتمكن من عمل شيء”.
ادعاءات مضللة
وأودى هجوم الطائرة التركية على مطبعة سيماف بحياة ستة أشخاص، خمسة منهم عاملون في المطبعة والسادس أحد المراجعين.
وتبنت تركيا استهداف مطبعة سيماف في القامشلي من خلال فيديو أرفقته بشرح: “تم التأكيد على أنه تم اتخاذ أقصى درجات الحذر لمنع تعرض المدنيين ومباني المستوطنات المدنية للأضرار أثناء العمليات”.
وترد قوات سوريا الديمقراطية على ادعاءات تركيا بأنها تصدّر أزماتها الداخلية لخارج الحدود، معتبرة أن استهداف المرافق التحتية والمدنية هو سياسة إبادة جماعية.
ويؤكد والد بيريفان أن كل موظفي المطبعة كانوا عاملين مدنيين مقابل رواتبهم، بمن فيهم المدير فرحان خلف، “كان في السابق مدرساً للغة الفرنسية وبيننا صداقة قديمة”.
وتضيف الأم: “بيريفان لم تحمل السلاح يوماً”..
الأم التي اعتادت على الخروج صباحاً مع بيريفان خشية الكلاب الشاردة في الحي، تنظر بحسرة الآن على باب غرفتها المقفل وتردد: “بيريفان أصبحت الآن قصة وتاريخاً”.