خلال الأسبوع الأول من اندلاع القتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، في يوم 15نيسان/أبريل2023، كان هناك تقديرات بأن الجيش سيحسم المعركة سريعاً، وإن لم يكن بأسابيع، ففي النصف الثاني من شهر أيار/مايو.
لم يحصل هذا، وإذا تتبعنا الأشهر التسعة من القتال، نجد أن “الدعم السريع” قد أصبحت مسيطرة على أغلب العاصمة المثلثة: الخرطوم- الخرطوم بحري- أم درمان، وعلى أغلب ولايات دارفور الثلاث، وعلى مساحات كبيرة من ولاية كردفان الشمالية، ومؤخراً سقطت بيديها ولاية الجزيرة الواقعة بين النيلين الأبيض والأزرق والتي هي السلة الغذائية والزراعية الرئيسية للسودان. من هنا يجب فهم نقل أغلب الوزارات والدوائر الحكومية إلى مرفأ بورتسودان، رغم أن الجيش مازال يحتفظ بركائز في العاصمة مثل مبنى القيادة العامة للجيش وقيادة سلاح المدرعات، ولكن الغلبة الميدانية، ولو من دون حسم، هي ملك “الدعم السريع”.
لايمكن عزو ماسبق إلى قضايا عسكرية صرفة، بل يجب البحث عن الركائز للقوتين من أجل تفسير ذلك، فقوات “الدعم السريع”، منذ تأسيس نواتها في “قوات الجنجويد” منذ بدء صراع إقليم دارفور بعام2003، تعود بركائزها الاجتماعية ووقودها البشري إلى عرب دارفور، وهم رعاة بقر وإبل، الذين كانوا طوال القرن العشرين في صراع مع أفارقة الإقليم الذين هم من المزارعين، وعندما استعان نظام عمر البشير بـ”الجنجويد”، والتي أصبحت تسمى “قوات الدعم السريع” لاحقاً، ضد التمرد الدارفوري المستند للأفارقة المزارعين، كان هناك ظاهرة ملفتة وهي أن الجيش السوداني، الذي واجه التمرد الجنوبي الأول 1955-1972 والتمرد الجنوبي الثاني 1983- 2005، كان مضطراً في دارفور للاستعانة بميليشيا قامت عملياً بالجهد الرئيسي العسكري ضد المتمردين بالترافق مع مذابح واغتصابات وتطهير عرقي قامت بها الجنجويد، ثم الدعم السريع، وسط اغماض البشير لعينيه، فيما لم يكن الجيش السوداني مضطراً لتقوم ميليشيات بذلك في الجنوب، رغم أن القوة العسكرية للمتمردين الجنوبين في التمردين كانت أقوى بما لايقاس من التنظيمات الدارفورية المسلحة، والتي لم تستطع واحدة منها أن تفرض قبضتها لوحدها كما فعل العقيد جون غارانغ بالجنوب. أيضاً، وإلى أبعد من ذلك، فإن عمر البشير عندما حصلت الانتفاضة الشعبية ضده منذ يوم 18 كانون الأول/ديسمبر 2018 بالعاصمة استدعى الدعم السريع لهناك، ولكن هذا كان كمن يطلق النار على نفسه، حيث كانت الإطاحة به في يوم11نيسان/ أبريل 2019 بالتشارك بين الجيش والدعم السريع، وليس صدفة أن محمد حمدان دقلو- حميدتي، قائد قوات الدعم السريع، كان هو الرجل الثاني في الترتيب السلطوي بعد الفريق عبد الفتاح البرهان، القائد العام للقوات المسلحة، منذ يوم الإطاحة بالبشير وحتى يوم 15 نيسان/ أبريل 2023.
فقوات الدعم السريع تستند إلى عرب دارفور الذين ترجم جهدهم العسكري الرئيسي في صراع إقليم دارفور 2003- 20018 في سلطة خرطوم 2019-2023 التي أصبحت سلطة برأسين وجيشين، وفي مرحلة ما بعد يوم سقوط البشير وحتى يوم 5 ديسمبر 2022 عندما تم توقيع (الاتفاق الإطاري) لتنظيم طريق الانتقال نحو حكم مدني كان البرهان ودقلو في صف واحد مقابل القوى المدنية وفي مقدمتها “إعلان الحرية والتغيير” بقواه السياسية المتعددة التي شاركت مع المكون العسكري بجناحيه،أي الجيش والدعم السريع، في حكومة عبد الله حمدوك 2019-2021، ولكن بعد الاتفاق الإطاري أصبح حميدتي في تحالف غير معلن مع “الحرية والتغيير” التي تضم قوى واسعة تمتد من حزب الأمة إلى المؤتمر الشعبي (تنظيم حسن الترابي القديم) والحركة الشعبية- شمال بقيادة ياسر عرمان إضافة إلى قوى ليبرالية مثل حزب المؤتمر السوداني، بينما البرهان لاقى تأييداً من الحركات المسلحة الدارفورية الموقعة على إتفاق جوبا مثل حركة تحرير السودان (آركو مناوي) وحركة العدل والمساواة (جبريل إبراهيم) وأيضاً جناح (الحركة الشعبية) بقيادة مالك عقّار وهو والي سابق لولاية النيل الأزرق.
كان انفجار 15 نيسان/ أبريل 2023 بسبب عدم اتفاق البرهان وحميدتي على تفسير تنفيذي لسطر مكتوب في “الاتفاق الإطاري” يقول التالي: “ضن خطة الإصلاح الأمني والعسكري والذي يقود إلى جيش مهني قومي واحد يتم دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة وفق الجداول الزمنية المتفق عليها”، وهو ما لم يقتصر الأمر على عدم الاتفاق على هذا الجدول الزمني بل وعلى تبعية ووضعية الدعم السريع بالفترة الانتقالية، وهو ما وقفت فيه قوى الحرية والتغيير مع حميدتي ضد الجيش الذي اعتبرته تلك القوى من البقايا الاستمرارية لنظام البشير والإسلاميين، وهي في الاتفاق الأخير الذي عقدته مؤخراً ببداية هذا العام بالعاصمة الأثيوبية مع حميدتي تؤكد ذلك عبر اتفاق الدعم السريع مع “تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية- تقدم” التي تضم عبد الله حمدوك والحرية والتغيير بعد تشكيل تقدم في أكتوبر الماضي.
حاول الجيش منذ 15نيسان/ أبريل حسم الموضوع عسكرياً، وهو بمعظم ضباطه الكبار، وبجسمه العام، منذ يوم استقلال السودان عام 1956 يعودان إلى عرب الشمال بالمنطقة الممتدة بين الخرطوم والحدود المصرية، ورؤساء السودان كلهم إما من العاصمة، مثل جعفر النميري وهو من أم درمان، أو من الشمال، مثل إبراهيم عبود وعمر البشير وعبدالفتاح البرهان، ومعظم رؤساء الأحزاب السودانية، وضباط الجيش الكبار كلهم من هناك وهناك، وأيضاً غالبية من شغل المفاصل الرئيسية في الجهاز الإداري السوداني منذ يوم الاستقلال، ونادراً مانرى عربياً من خارج تلك المنطقة قد تبوأ المناصب العليا مع استثناء محمد أحمد محجوب رئيس الوزراء بالستينيات وهو من عرب ولاية النيل الأبيض أو عبدالله حمدوك وهو من عرب ولاية كردفان الجنوبية، هذا مع ذكر وتسجيل تهميش الأفارقة السودانيين سواء كانوا مسلمين أومسيحيين أو إحيائيين في سودان ما بعد 1956.
لذلك رأينا الدعم السريع لا يجد مستنداً في الشمال السوداني، بينما لاقى الدعم عند العرب الجهويين وعند النخبة السياسية العربية المعادية للإسلاميين، فيما الجيش لاقى دعماً من الحركات الدافورية التي لم تنسَ الدم الذي أراقه الجنجويد والدعم السريع في إقليم دارفور، وهي تخشى من أن سيطرته على السلطة وتغلبه على الجيش ستقود إلى تدفيع فاتورة كبرى للدارفوريين الأفارقة.
هنا، يمكن تسجيل ظاهرة في انفجار السودان بيوم 15نيسان/ أبريل2023 أنه صراع عربي- عربي بين مركز السلطة التقليدي العربي منذ 1956 وبين عرب الأطراف، فيما كان تمردا الجنوب الأول والثاني وتمرد دارفور وتمرد قبائل البجا بالشرق وتمرد جبال النوبة بولاية كردفان الجنوبية هي تمردات مسلحة لأفارقة ضد سلطة العرب الشماليين،الذين سلمهم البريطانيين عند يوم الاستقلال، رغم أن الاستفتاء السكاني الذي أجرته لندن في الفترة الانتقالية 1953-1956 قد أظهر أن العرب أقلية لاتتجاوز تسعة وثلاثين بالمئة من السكان، وأن الأفارقة واحد وستون بالمئة ولكن يتوزعون على قبائل وإثنيات.
كتكثيف: من تجربة السودان خلال ثلثي القرن من الزمن ، يبدو أن حكم الأقلية هو وصفة لعدم الاستقرار، ويبدو أن لندن التي كانت تزرع ألغاماً في المناطق التي كانت تسيطر عليها قبل تركها، مثل الهند- باكستان وفلسطين والعراق، كانت تعي بأن السودان هو في وضعية البنية الانفجارية. ولكن، من أجل الدقة فإن انفجار 15نيسان/ أبريل 2023 هو أقوى انفجار سوداني في سلسلة الانفجارات البنيوية التي شهدها السودان منذ استقلاله عام 1956.