الاجتماع الهام والمؤثر الذي عُقد عام 2016 وتوصل فيه وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، إلى “اتفاق مبدئي” مع نظيره الروسي، سيرغي لافروف، لوقف الأعمال العدائية في سوريا، حينها وصف الاجتماع بالمثمر وعبّر عنه كيري بالقول: “أعتقد أننا توصلنا إلى اتفاق مبدئي، بشأن وقف إطلاق النار والأعمال العدائية، الذي قد يدخل حيز التنفيذ في الأيام المقبلة”.
جاءت أهمية الاجتماع من كونه رسم وحدد خرائط النفوذ بين القوى الدولية المنخرطة بالشأن السوري وبالجغرافية السورية، وأنه رسخ قواعد اشتباك، وضبط الحالة العسكرية، وحاول منع أي احتكاك عسكري بين قوات تلك الدول، والحديث كان بشكل خاص عن القوات الأميركية والروسية والتركية أما ميليشيات إيران فتدخل بالعباءة الروسية، وإن كانت روسيا على مدار كل السنوات السابقة لم تستطع ضبط تحركاتها.
بتلك الصيغة أصبحت مناطق شمال شرقي سوريا خالصة تحت النفوذ الأميركي وأعطيت لتركيا النفوذ بكل المناطق التي تخضع حينها للجيش الحر والقوى الثورية الرافضة لحكم نظام الأسد، وما تبقى من الجغرافية السورية أصبحت تحت النفوذ الروسي، لكن قواعد الاشتباك تلك، وعند تقسيم مناطق السيطرة الجوية استبعدت تركيا وجعلت السماء السورية تخضع لنفوذين فقط: أمريكي في مناطق شرقي الفرات والباقي للنفوذ الجوي الروسي، وأُلحقت بتفاهمات كيري – لافروف خطوط ساخنة لتنظيم قواعد عدم الاشتباك ومنع الصدام الجوي.
استبعاد تركيا سبب لجيشها الكثير من الإحراج بحيث أنها أصبحت مضطرة لطلب الإذن والتنسيق مع الجانب الأميركي إذا ما أرادت تغطية أي عمل عسكري في مناطق شرقي الفرات، وكذلك التنسيق مع الجانب الروسي في مناطق مسؤوليته، باعتبار أن أي عمل أرضي أو معركة برية تحتاج بالضرورة لجهود القوى الجوية لتأمين الدعم والمرافقة النارية لعمل القوات إضافة لأعمال الاستطلاع والمراقبة، لكنّ أنقرة وعبر تفاهمات أبرزتها الضرورة، استطاعت الحصول على تلك الموافقات سواءاً من الجانب الروسي عندما قتل لها 34 جندياً بغارة جوية من طيران جيش الأسد، استهدفت رتلاً عسكرياً تركياً في منطقة بليون قرب مدينة إحسم في ريف إدلب وفيها تدخل الطيران التركي، أو عبر تفاهم مع الجانب الأمريكي عقب هجمات طالت شارع الاستقلال في مدينة إسطنبول وحمّلت تركيا المسؤولية فيها لأحزاب كردية تعمل في شمالي سوريا، حيث قام الطيران التركي بالهجوم على عدة مواقع عسكرية حينها.
أما عمل الطائرات المسيرة بكل أصنافها القتالية والمفخخة (الانتحارية) والهجومية، فكان يخضع لتجاذبات ولعدة اعتبارات، إلا أن تزايد الهجمات التركية في مناطق شرقي الفرات وفي سماء شمال غربي سوريا، دفعت بقاعدة حميميم والتحالف الدولي لفرض “فيتو” على عملها، وبالتالي خرجت المسيرات التركية أيضاً من الأجواء في شمال غربي سوريا.
اتفاق كيري لافروف ليس فقط منع الاحتكاك بين جيوش الدول المتنفذة في الجغرافية السورية، بل أوجد نوعاً من الضبط لخرائط النفوذ على الأرض أيضاً، إلا في حالات خاصة بعد حصول تفاهمات، كتلك التي جرت عبر تفاهم روسي تركي في مناطق “الجيش الوطني” وفيها عاد النظام لمعظم أرياف إدلب وكامل أرياف حماه، أو عبر تفاهم مع الجانب الأميركي والروسي عندما سيطرت تركيا وحلفائها بـ”الجيش الوطني” على مناطق كبيرة سميت لاحقاً مناطق “غصن الزيتون” و”درع الفرات” و”نبع السلام”.
منذ أيام قليلة فوجئ سكان إدلب بطيران حربي تركي (إف16) يحلق بأجواء المدينة وأريافها وبحرية كاملة، أعقب التحليق قصف كثيف لمواقع ميليشيات إيرانية داخل مدينة سراقب الخاضعة لنفوذ جيش الأسد، ودخول الطيران المقاتل التركي للأجواء السورية في مناطق النفوذ الروسي، إضافة أنه يحتاج لتنسيق مسبق مع قاعدة حميميم وفق قواعد النفوذ وقواعد الاشتباك المعمول بها، لكنه يؤشر أيضاً لتغيّر في نمط العلاقات بين دول اجتماع أستانا، عبر موافقة روسية لطيران تركي ونقاط تركية بقصف مواقع إيرانية، وهذا التغير الذي يصل لحد المفاجأة يأتي عقب حملة قصف جوي وبري طالت أرياف إدلب وحلب (في مناطق النفوذ التركي) مستمرة لأكثر من 100 يوم، شاركت فيها وبكثافة طائرات قاعدة حميميم الجوية الروسية عقب تفجير ومجزرة عبر طائرات مسيرة وقعت في حفل تخريج للكلية الحربية في مدينة حمص الخاضعة لنظام الأسد، وفيها حُمّلت مسؤولية الهجوم لـ”هيئة تحرير الشام”، رغم أن مصادر من داخل النظام سربت أن التحقيقات التي أُجريت لاحقاً أثبتت غير ذلك، لكن قصف المدنيين استمر ولم يتوقف.
تغير قواعد الاشتباك عبر دخول الطيران الحربي التركي للأجواء السورية يوحي بشكل ما لتفاهمات روسية تركية متقدمة غير معروفة التفاصيل، لكنها تعكس أيضاً خلافات روسية مع إيران، وهذا الأمر يأتي عقب تغيرات ميدانية حصلت في أرياف إدلب،الأولى كانت عبر إدخال إيران لسلاح المسيرات الانتحارية التي نُقلت عبر ميليشيات تتبع لإيران إلى مطار أبو الضهور (شمال شرقي مدينة إدلب)، ووصل معها عدد من أطقم الحرس الثوري الإيراني المختصة بعمل وصيانة الطيران المسيّر، إضافة للتحكم بطيرانها من حيث السيطرة والتوجيه، وبادروا لتدريب أطقم محلية حول تكتيك الاستخدام، وسرعان ما بدأت تلك الطائرات المسيرة بالعمل وهاجمت بعض مواقع “الجيش الوطني” و”هيئة تحرير الشام” والمدنيين في شمال غربي سوريا، والثانية كانت عبر استخدام المقذوفات الفوسفورية على المدنيين، وتلك أعمال تعيد حالة عدم الاستقرار لمناطق شمال غربي سوريا، وستؤدي إلى حالة نزوح وعمليات تهجير إن كان نحو الحدود السورية التركية أو باتجاه الداخل التركي، وعملية النزوح والتهجير أو اللجوء لتركيا تشكل خطراً كبيراً وتعتبره تركيا مساساً بأمنها القومي.
بعض التفسيرات لعمليات القصف الروسي والأسدي وبمشاركة إيرانية ومنذ أكثر من ثلاثة أشهر على مناطق النفوذ التركي قيل إنها رسالة ضغط تعبر عن امتعاض روسي إيراني مشترك بسبب التراجع عن وعود وتفاهمات خاصة منحتها أنقرة لموسكو وطهران، وتتضمن سحب قواتها و”الجيش الوطني” من مناطق جنوب طريق (m4) وكذلك طريق (m4) وأن تلك التفاهمات تضمنت الانسحاب لاحقاً من كامل مدينة إدلب إضافة لمعبر باب الهوى، وأن التراجع التركي حصل عقب فوز الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية بالانتخابات التي حصلت عام 2023، أما بعض المصادر التركية فأكدت أن التراجع التركي (إن كانت تلك التفاهمات حصلت) فيعود لخوف تركي من هجرة عكسية باتجاه تركيا من كل المناطق التي سيتم تسليمها لنظام الأسد، على اعتبار أن سكان تلك المناطق يرفضون العيش تحت نفوذ سلطات الأسد، وبالتالي ستكون وجهتهم الحتمية نحو الأراضي التركية.
إجمالاً يبقى المشهد في مناطق النفوذ التركي ضبابي وغير مفهوم، والتقارب التركي الروسي ليس بجديد، وأما جديده فقط أنه يأتي على حساب التحالف الروسي الإيراني في سوريا، لكن أيضاً وإن كانت هناك بعض التغيرات بقواعد الاشتباك (روسياً، تركياً، إيرانياً) لكن تبقى خرائط نفوذ الدول المنخرطة بالشأن السوري ولكل الأطراف بما فيها مناطق النفوذ الأمريكي، محترمة من الجميع وعصية على التغيير، حتى في ظل تحرشات ميليشيات إيران بقواعد أميركية شرقي الفرات، فمن الواضح عدم وجود أي نوايا لتلك الدول باختراق وتغيير حدود تلك الخرائط.