آية المحمد.. عاملة هاجمتها تركيا لتعزيز أمنها القومي
نالين علي- نورث برس
استيقظت آية علي المحمد (18 عاماً) صبيحة عيد الميلاد ٢٠٢٣ في منزل عائلتها في ضواحي القامشلي، شمال شرقي سوريا، دون أن تدري أن طائرة ستستهدف حياتها هذا اليوم بذريعة تعزيز أمن الحدود التركية.
لم تستغرق الشابة الكثير من الوقت لتحضير نفسها قبيل التوجه للعمل في مخزن لحلج القطن على الشارع القريب، فارتداء لباس العمل والتأكد من وضعية وشاحها هو روتين اعتادت عليه.
ومنذ العام ٢٠٠٢، انتقلت العائلة من قرية “حاجية صغيرة” جنوب القامشلي إلى أم الفرسان الملاصقة للمدينة طلباً لعمل يؤمّن احتياجاتها الأساسية.
وآية فتاة لا تجيد القراءة والكتابة، فقطاع التعليم تدهور في سوريا عاماً بعد آخر، بالإضافة لعدم اهتمام بعض العائلات الريفية أصلاً بتعليم أبنائها، لا سيما الفتيات.
وكانت الفتاة في الخامسة من عمرها حين بدأت الاحتجاجات في سوريا عام 2011، وبلغت عمر المدرسة في العام التالي حين زادت كل من الحكومة والمعارضة استخدام السلاح في صراعهما العنيف.
ومنذ طفولتها، كانت تحب اللعب والمزاح والاهتمام بلباسها وأناقتها، كما يروي والداها لنورث برس، ولم يتغير ذلك حين قررت مساعدة والدها وشقيقها في تحمل الاعباء المعيشية للعائلة.
ورشة العمل التي استهدفتها طائرة مسيّرة تركية يوم عيد الميلاد الفائت، كانت معروفة ب”مطحنة حجي جاسم” في قرية أم الفرسان في المدخل الشرقي للقامشلي، وتضم آلات لطحن الحبوب وحلج القطن.
إصرار على العمل
وكعادتها كل يوم، لم تتناول آية الإفطار، لا سيما أنها تخرج باكراً قبيل شروق الشمس، فالحكومة والإدارة الذاتية لم تعودا تغيران توقيت الساعة شتاء.
وتشير بيانات الأرصاد الجوية إلى أن الحرارة كانت ذلك الصباح حوالي ست درجات مئوية، والأرض ما زالت موحلة بعد أمطار الأمس.
نبهتها الأم: “لماذا لا ترتدين البوط بدل حذائك الصيفي هذا؟”
ردت: “لا أدري”، وأكملت مسيرها نحو الشارع حيث تلتقي بأربع فتيات أخريات من قريباتها وصديقاتها للتوجه للعمل.

وقد تكون آية قد تحسست في ذلك الصباح ألماً في إصبعها، بسبب الدملة التي كانت واضحة منذ اليوم السابق، فربما تتسبب قطع جوز القطن اليابسة بين القطن بزيادة ألمها.
وبالتأكيد ستثير الإصابات البسيطة في اليدين بعض القلق لعاملة تحتاج إلى يديها لثمان ساعات متواصلة كي تنفش القطن المعبأ في أكياس، لكنها أكملت مسيرها نحو العمل.
وفي المحلج، الذي هو عبارة عن بناء من الصفيح (التوتياء)، بدأ النهار بمعرفة تفاصيل عمل اليوم مع بعض المزاح بين العاملات.
“تحب آية المزاح، لكن لم أسمع يوماً أن رفيقة لها انزعجت منها، أو وضعت الحق عليها في مشكلة ما” يقول والدها.
الوالد علي حميدي المحمد (55 عاماً)، هو موظف في بلدية القامشلي كعامل زراعي يرعى الأشجار.
وكانت آية تعمل رفقة البنات، قريباتها وصديقاتها، في أعمال زراعية قريبة، أو في تحميل وتنزيل بضائع للمخازن ومستودعات الخردة القريبة من منزل عائلتها.
وتتوزع على طول الطريق العام وسط أم الفرسان وجمعاية المتجاورتين ورشات عمل للأعلاف والمنتجات الزراعية وأخرى للحديد والخردة.
وبعد جني محصول القطن في المنطقة في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، أعلنت ورشة حلج القطن حاجتها لخمس عاملات، لتحصل آية وقريبتاها وصديقتاها على العمل.
“لم تكن تحارب”
وفي هذا اليوم، الخامس والعشرين من كانون الأول/ سبتمبر، تعمل العاملات في أم الفرسان على إنهاء حلج القطن الذي لم يتبقّ منه إلا كمية قليلة.
وعلى بعد كيلومترات في مركز المدينة، كان أبناء الطوائف المسيحية يحتفلون في منازلهم أو في الكنائس بعيد الميلاد، كما أن المؤسسات الرسمية التابعة للحكومة أو الإدارة الذاتية تعطل هذا اليوم.
لكن ورشات العمل الخاصة لا تجاري العطل الرسمية، كما أن يوم العمل مهم للعاملات والعمال الذين يحصلون على أجر يومي لأيام عملهم الفعلية فقط.
في الثانية عشرة ظهراً، اتصلت آية مع والدتها: “أحتاج أن تسدّي محلي في العمل حتى أتمكن من مراجعة الصيدلية للحصول على دواء للبثور على إصبعي، فهي تؤلمني أثناء العمل”.
تتذكر الأم أنها كانت مشغولة بأعمال المنزل، وطلبت من ابنتها ترك العمل هذا اليوم مادامت تتألم.
يوم عطلة بارد وألم في يدها، لكن الشابة فضّلت أن تكمل عملها حتى تحصل على أجرة كاملة ليومها، والتي تبلغ 25 ألف ليرة سورية (ما يعادل أقل من دولارين أمريكيين).
وكانت تركيا قد قصفت صباحاً عدة مواقع في القامشلي، من بينها مطبعة سيماف على الحزام الشمالي للمدينة، ومعمل لإنتاج قش المكيّفات في حي علايا.
ولا تصل تفاصيل الأخبار لمسامع العمال في ورشاتهم، كما أن خيار إيقاف العمل مع دوي كل قصف يعني لهم ألا يعملوا.
يقول مالك الورشة، أحمد المحيميد، إن منشأته عمل خاص ولا علاقة لها بالصراع العسكري.
لكن طائرة مسيّرة تركية هاجمت ورشة حلج القطن بقذيفة أودت بحياة العاملة آية وأصابت عاملتين بجروح.
نهضت العاملات بعد الضربة وتفقدن إصاباتهن، وشاهدن آية على الأرض فاعتقدن أنها فقدت الوعي، على حد ما تنقل الأم عنهن.
“قام الشاب الذي يعمل هناك أيضاً بحملها لإسعافها والعاملتين المصابتين، وطوال الطريق للمشفى حاولن إيقاظها عبر مناداتها وتحريكها”.

أمن الحدود التركية
الساعة الثالثة عصراً، هرعت إحدى الجارات لمنزل العائلة وأخبرتهم أن “يد آية أصيبت في المكنة وتم إسعافها للمشفى”.
ويلجأ بعض الناس عادة لاستبدال خبر الموت بالحديث عن إصابة ما، في محاولة لتخفيف آثار الصدمة على المفجوعين.
أسرع الوالدان في الخروج دون أن يخطر لهما أن القصف الذي سمعا دويه منذ قليل، ونشر الرعب بين أطفالهما الصغار، استهدف أيضاً الورشة حيث تعمل ابنتهما.
في مشفى السلام الخاص في القامشلي، علم الوالدان من عاملة مصابة هناك أن آية في مشفى دار الشفاء.
يضيف الأب: “أسرعنا للمشفى مع مخاوفنا، لكننا وجدناها متوفية، كانت شظية القذيفة قد اخترقت ظهرها وأصابت القلب”.
في اليوم التالي، أعلنت الاستخبارات التركية تدميرها 50 منشأة قالت إنها تابعة لحزب العمال الكردستاني، وزادت: “مع إيلاء أهمية قصوى لدرء إلحاق الضرر بالمدنيين”.
وتزعم وزارة الدفاع التركية أن استهدافها للمنشآت يوم عيد الميلاد والأيام القليلة قبله، وقتلها لعدد من الأشخاص، قد عزّز أمن حدودها.
وترد قوات سوريا الديمقراطية على ادعاءات تركيا بأنها تصدّر أزماتها الداخلية لخارج الحدود، معتبرة أن استهداف المرافق التحتية والمدنية هو سياسة إبادة جماعية.
وعلى الأرض، يقع محلج القطن في قرية معظم سكانها عائلات من العشائر العربية، بمن فيهم صاحب الورشة والعاملات.
حتى أن العائلة فضلت تشييع ابنتها وفق التقاليد العشائرية على المراسم الرسمية التي نظمتها مؤسسة عوائل الشهداء في المدينة.
ويؤكد صاحب المنشأة أن لا علاقة لمشروعه التجاري بأي جهة عسكرية أو سياسية.
ويقدّر صاحب الورشة خسارته المادية بنحو 10 آلاف دولار أمريكي ، ويأمل أن تتماثل العاملتان المصابتان للشفاء، لكنه يتحسر على الفتاة البريئة التي أودى القصف بحياتها.
وكانت تركيا قد استهدفت، في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، أرضاً مزروعة بالقطن في قرية البشيرية بريف الدرباسية بقذيفة سقطت وسط عشر عاملات يجنين القطن.
وتسبب القصف آنذاك بإصابة خمس عاملات، أصيبت إحداهن ببتر في القدمين.
يذكر الأب إن ابنته الشهيدة كانت تحلم دائماً أن تتحسّن أوضاعهم المادية، وكانت حريصة على العمل من أجل مساعدته.
وتْلمح إحدى صديقاتها إلى مشروع خطبة كان في الأفق قبيل مقتلها.
وتشير الأم إلى أن كل من يعيش في هذه البلاد مجبرون على العمل دون توقف، حتى النساء والمسنون لم يتوقفوا عن العمل المجهد منذ عشرة أعوام.
ويختلط صوتها مع البكاء: ” إجرام، لم نرسلها لتحارب ولا لمكان خطر.. عاملة تعمل فتأتي طائرة لقتلها.. هو الإجرام بعينه”.