واظبت إسرائيل على تطويق التمدّد الإيراني في سوريا منذ وقت أسبق على أحداث 7 أكتوبر في غلاف غزة، لاسيما في دمشق وحلب ومحيطهما وهضبة الجولان والمعابر بين سوريا ولبنان عبر توجيه ضربات جوية لقواعد وشخصيات في الحرس الثوري الإيراني، لكنها وفق تطوّر الأحداث أصبحت أكثر تعقّباً للتحركات والأنشطة الإيرانية، ولعلّ إقدامها على استهداف أحد أبرز المستشارين العسكريين الإيرانيين في سوريا، رضي موسوي، مثّل ذروة النجاح الاستخباراتي والعسكري حتى اللحظة، فيما يمكن اعتبار العناد والاجتهاد الإيراني في الحفاظ على ثقل تواجدها في سوريا وقدرتها على تحمّل الخسائر في صفوف قواتها وقياداتها، المكافئ الفعلي للاستهدافات الإسرائيلية. هذا التكافؤ يضع سوريا في مرمى حرب استنزاف متبادلة مكلفة.
لكأن قواعد اللعبة المميتة بين إسرائيل وأميركا من جهة وإيران من جهة أخرى تقتضي تفهّم الأخيرة مسألة قتل قادتها العسكريين والأمنيين الكبار خارج إيران، وحتى أولئك الذين يلوذون بالحمى الإيراني في سوريا ولبنان، إذ تلى مقتل موسوي، مقتل القيادي في “حماس” صالح العاروري واثنين من قادة “القسام” في الضاحية الجنوبية ببيروت، أي في المنطقة التي تعتبر حرماً إيرانياً داخل لبنان.
في وقت سابق لم يستصحب مقتل الجنرال قاسم سليماني في 3 يناير/كانون الثاني 2020 (وهو بالمناسبة يصادف يوم اغتيال العاروري) ردوداً انتقامية متناسبة مع فجيعة النظام الإيراني بخسارة قائد كان يعدّ من القادة الملحميين في تاريخ الجمهورية الإسلامية. ورغم توعّد طهران الجنود والأصول الأميركية في العراق وسوريا، إلّا أن سقف الردّ كان أخفض من المتوقّع، وعلّة الأمر أن إيران بدت مضطربة في التعامل مع إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، فسلوك ترامب كان يمزج بين الحدّة غير المتوقّعة والقابلية للتفاوض، بمعنى أن إمكانية تقييم الإيرانيين لسلوك ترامب بدا أصعب من كل الرؤساء الذين سبقوه، إذ بمقدوره شنّ حرب مباشرة على إيران وعلى العكس من ذلك كان بمقدوره الذهاب للقاء آية الله خامنئي، كما فعل في لقائه زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون عام 2019، هذه الغرائبية التي ميّزت سياسة ترامب ثبّطت موجة الانتقام الإيرانية، لتقتصر على جولات قصف صاروخي للقواعد الأميركية في العراق وكردستان العراق دون أن تتسبّب بأي خسائر في صفوف الجنود.
في الأثناء تبدو المجموعات المرتبطة بإيران والحرس الثوري الإيراني والقادة والمستشارين العسكريين مدرجين على قوائم التصفية الإسرائيلية حتى وإن لم يشنّوا هجمات مباشرة على إسرائيل، وبذلك يختلف المنهج الإسرائيلي مع سياسة الولايات المتحدة التي لا تفضّل المبادأة وتؤثر التعامل مع الضربات الإيرانية لأصولها العسكرية في سوريا وفق قاعدة كرة الطاولة “البينغ بونغ”: ضربة مقابل ضربة، وإن كانت الضربات الأميركية مميتة وأشد فتكاً من تلك التي تشنّها المجموعات المرتبطة بإيران على القواعد الأميركية في شمال شرقي سوريا وقاعدة التنف.
مطلع هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول سعت تل أبيب إلى توجيه تنبيه بدا في غاية الجدّية للنظام السوري وأنه لن يستثنى من العمليات الانتقامية للجيش الإسرائيلي حال ضلوعه في أعمال عسكرية ضد إسرائيل. بدت تل أبيب المجروحة جدّية كما لم تكن قبل ذلك التاريخ فيما خص رغبتها تحييد دمشق عن مسرى الأحداث، وبطبيعة الحال لم تكن دمشق مستعدة لأن تصبح جزءاً من جهود تعميق جرح 7 أكتوبر على ما يحمله الأمر من مغامرة لنظام فقد السيطرة في مناطق واسعة من البلاد، ضمن ذلك الاقتطاعات العسكرية للإيرانيين والأتراك، فوق أن النظام يعرف أن إدراجه في “محور المقاومة” لا يعني أكثر من الحضور والمشاركة الشرفيّة في المباراة الإيرانية الإسرائيلية.
تركيز إسرائيل واستهدافاتها المتكررة لمحيط دمشق والجولان، وتعطيل المطارات بحلب ودمشق يدخل في صلب سياسة تعقّب إيران، أكثر مما يمكن توصيفه بأنه هجوم على قوات النظام، لكن هذا المنهج الإسرائيلي قابل للتعديل عليه بحيث يتسع ليشمل ضرب قوات النظام السوري بشكل أكثر دموية وإرعاباً، على ما توحي به الأحوال في الجولان ودرجة التسخين هناك. في الأيام القليلة الماضية شهدت جبهة الجولان التي تعجّ بالمجموعات الموالية لإيران مناوشات يمكن إدراجها في خانة التلويح بإمكانية توسيع الجبهات ووحدتها حال تعرّض لبنان لهجوم إسرائيليّ واسع. لكن النظام الذي يتصرّف كمؤجّر للمنطقة المحاذية للجولان المحتل يبدو شديد الحذر لجهة التهديدات الإسرائيلية حيث ألقت طائراتها الحربية منشورات تتوعد قادة وجنود الجيش السوري والأمن العسكري، محمّلة إياهم مسؤولية الأعمال العسكرية والقذائف الصاروخية التي تطلق من ريف القنيطرة باتجاه إسرائيل، ولعلّ هذه التحذيرات تضع دمشق أمام مسؤولية حماية الحدود وإن خرجت عن سيطرتها لصالح الإيراني، ذلك أن قادة إسرائيل سيحمّلون النظام مسؤوليته “التقصيرية” في ضبط الحدود وإحكام الحواجز في مواجهة تدفّق المليشيات الإيرانية التي تتراكم في جنوب سوريا، وإذا كانت الاستهدافات الإيرانية للأصول الأميركية شرقي سوريا مستمرة فإنها قد تكون لأجل التعمية على الغرض الأساسي المتمثّل بمراكمة العدّة والعتاد والمقاتلين بمحاذاة الحدود مع الجولان المحتل.
والحال إن القول بعدم سعي إسرائيل لتوسيع جبهة القتال باتجاه الأراضي السورية ولبنان، لا يمكن أن يخضع للمحاكمة المنطقية، ذلك أن حسابات إسرائيل باتت تقوم على استباق وإرباك “محور المقاومة”، وقبل أن تتحوّل الحدود السورية مع إسرائيل إلى نموذج آخر لجنوب لبنان، فوق أن حكومة الحرب الإسرائيلية تبحث عن توسيع إطار الحرب خارج غزّة، في سوريا ولبنان، مستلهمة روح حرب الخامس من حزيران 1967 الأمر الذي قد يخفف من وطأة المحاسبة على الطبقة السياسية والعسكرية في إسرائيل. بهذا المعنى فإن نأي دمشق بنفسها عن تطوّر الأوضاع في غزة لن يكون بمقدوره حماية النظام من الوعيد الإسرائيلي وهستيريا الحرب التي تعصف بالأرجاء. وعليه، فإن العدوّين، إسرائيل وإيران، يحتسبان سوريا داخل محور المقاومة حتى وإن تصرّفت خلاف ذلك أو حاولت الابتعاد عن تأثيرات المبارزاة الإيرانية الإسرائيلية الدامية.