يتفق أغلب المختصين بالشؤون التركية على أن نهج أردوغان وسياساته لا تحكمها مبادئ معينة بحيث يمكن التنبؤ بمتغيراتها، خصوصاً عندما تتعلق بالقضايا الإقليمية. ويذهب البعض من المختصين العرب بالشؤون التركية إلى تشبيه نهج أردوغان بنهج وليد جنبلاط وسياساته، التي تتغير بتغير حساباته الشخصية. قد يكون لهذا التشبيه بعض الصدقية، وثمة أمثلة عديدة على ذلك منها سياسات تركيا تجاه سوريا، ونظامها السياسي على وجه الخصوص، وسياساتها تجاه القضية الفلسطينية، وغيرها، إنها الانتهازية السياسية في التطبيق. يكاد يكون الثابت الوحيد في سياسة أردوغان هو نكرانه لوجود قضية كردية سواء في تركيا أم في الدول المجاورة، ومعاداته المعلنة لأي مطالب كردية مشروعة.
من المعلوم أن حزب العدالة والتنمية التركي منذ أن استلم السلطة في تركيا قبل نحو عشرين عاماً، وهو يسعى إلى خلق مجال حيوي لتركيا في دول الإقليم في تنافس غير معلن مع إيران وإسرائيل. اعتمد الحزب في عهد الرئيس التركي عبد الله غول والعهدة الأولى لأردوغان على الدبلوماسية أساساً لتصفير مشاكل تركيا المتراكمة مع هذه الدول، ونجحا إلى حد كبير. ونتيجة لهذا النهج السياسي صارت علاقات تركيا مع سوريا والعراق وأغلب الدول العربية جيدة، وكادت تصير جيدة أيضاً مع أرمينيا واليونان. كل ذلك ساهم في ازدهار الاقتصاد التركي وتحسن مؤشرات تنميته بحيث صارت تركيا تشغل المرتبة الخامسة عشر بناتجها المحلي الإجمالي الفعلي (بمكافئ القوة الشرائية) في قائمة دول العالم.
تغير الحال بصورة حادة في عهدة أردوغان الثانية إذ سعى بداية ليصير الزعيم الأوحد لحزب العدالة والتنمية فأخذ يتخلّص تباعاً من منافسيه المحتملين في الحزب. وما إن تحقق له ذلك حتى انتقل من اعتماد الدبلوماسية إلى التدخل المباشر في شؤون الدول المجاورة مستفيداً من خدمات الإسلام السياسي، والسلفي الجهادي منه على وجه الخصوص، وبذلك صارت سياسات أردوغان خالقة للمشاكل ومؤزمة لها، بدلاً من مصفّرة لها. هذا هو حال تدخله في ليبيا، وفي سوريا، وفي العراق وفي غيرها من دول الإقليم.
عندما قرر حزب العدالة والتنمية التوجه شرقاً، نحو دول الإقليم، وخصوصاً نحو الدول العربية، بعد أن تأكد من أن أبواب الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي لن تفتح لتركيا، وجد أمامه منافسين رئيسيين هما إسرائيل وإيران، وكل منهما يستخدم أدوات خاصة به؛ فإسرائيل اعتمدت على الدور الأميركي المهيمن في المنطقة لتطبيع علاقاتها مع الدول العربية كمقدمة لخلق بيئة محلية مطبعة معها مما يسهل عليها لاحقا الانتشار السياسي والاقتصادي فيها. وبدورها اعتمدت إيران على الانتشار الشيعي في العديد من الدول العربية لخلق بيئة سياسية ملائمة لمشروعها الإقليمي، ونجحت في ذلك إلى حد بعيد، ومما ساهم في نجاح مشروعها أيضاً توجيه قسم مهم من استثماراتها السياسية ضد إسرائيل ودعما للقضية الفلسطينية، وكذلك في محاربة قوى الإسلام السني السلفي الجهادي المتطرف في سوريا والعراق.
فيما يخص تركيا اعتمدت في البداية، كما ذكرنا على الدبلوماسية لتحسين علاقاتها مع دول الإقليم، لكنها لاحقاً، وخصوصاً مع انطلاق ما سمّي بالربيع العربي أخذت تعتمد سياسة تدخلية مباشرة في الشؤون الداخلية لهذه الدول مستثمرة في حركات الإسلام السياسي بصورة عامة، وفي الحركات السلفية الجهادية المتطرفة منها على وجه الخصوص.
تدخلت تركيا في ليبيا مع بدء انطلاق حركة تمرد مجتمعي واسعة ضد نظام معمر القذافي دعما لدور الإخوان المسلمين الحاسم في إسقاط نظام القذافي، ولمّا لم تنجح باستمالة بقية الأطراف الليبية عمدت إلى دعم القوى السياسية والعسكرية في العاصمة طرابلس ضد القوى السياسية والعسكرية في بنغازي مما ساهم في انقسام ليبيا بين شرق وغرب، وفي السنتين الأخيرتين، ونتيجة للتدخل الروسي والمصري الحاسم إلى جانب خليفة حفتر والقوى السياسية في شرق ليبيا، بدأت تعيد تقويم سياساتها في هذا البلد باتجاه دعم حل سياسي متفاوض عليه.
قد تكون سياسات تركيا تجاه سوريا مثالاً نموذجياً على تذبذبها، وغلبة الطابع الانتهازي عليها، فمن المعلوم أن علاقات سوريا مع تركيا، خلال فترة حكم حافظ الأسد، غلب عليها طابع التوتر، لكن مع استلام ابنه للحكم خلفاً له بدأت تتحسن، ومع استلام حزب العدالة والتنمية للحكم في تركيا تسارع كثيراً تطبيع العلاقات بين البلدين مما سمح بوصولها، خلال العشرية الأولى من فترة حكمه، إلى مستويات غير مسبوقة، لم يكن أشد الملاحظين تفاؤلاً يتصوّرها. لكن، وخلال العشرية الثانية، وخصوصاً مع بدء حصول تمرّد مجتمعي واسع في سوريا ضد النظام السوري تغيّرت السياسات التركية تجاه دمشق بصورة جذرية، إذ أخذت تدعم القوى الجهادية المتطرفة لإسقاط النظام السوري، ولما لم تنجح في مسعاها هذا بدأت انعطافة جديدة في سياسة تركيا تجاه النظام السوري تنشد التطبيع معه.
كان من نتيجة سياسات أردوغان التدخلية في شؤون الدول الإقليمية دخول الاقتصاد التركي في أزمة تضخمية كادت أن تودي به إلى الانهيار لولا أنه عاد، في عهدته الثالثة، إلى الدبلوماسية لتصفير مشاكله الكثيرة مع الدول المجاورة وخصوصاً مع الدول العربية.