في آخر مظاهرة شهدتها السويداء جنوب سوريا في الثاني والعشرين من كانون الأول الماضي، هنّأ المتظاهرون “مجلس سوريا الديمقراطية” (مسد) بعد انتهاء مؤتمره الرابع وانتخاب قيادة جديدة، رافعين لافتات من ضمنها “شرقي الفرات والسويداء بالتوحد معاً نبني سوريا المستقبل الموحد”، “اللامركزية: سوريا شعب واحد”، و”الإدارة اللامركزية الحل القادم”.
جاءت هذه التهنئة في وقت يستمر حراك السويداء في شهره الرابع دون أية بوادر في الأفق لحل محتمل سواء عبر مفاوضات تجري بين دمشق وقادة في مجتمع السويداء بشكل غير معلن منذ الأسابيع الأولى للحراك لم تتمخض عن أي اتفاق ولو أوّلي في ظل عناد دمشق المستمر، أو عبر حلول أخرى تدخلت فيها جهات إقليمية وازنة في محاولة لإبعاد شبح التدخل الغربي عن مسار حراك السويداء، إلا أنها قد انكفأت بطلب من دمشق.
تأتي تهنئة السويداء كذلك في وقت بات فيه مؤكداً إجراء انتخابات ضمن قواعد حزب البعث الحاكم لاختيار أعضاء لجنة مركزية جديدة ستنتخب بدورها قيادة مركزية جديدة للحزب، في استمرار لمحاولات البعث تحقيق نوع من التغيير في هياكله الداخلية المتداخلة مع بنية الدولة السورية في مناطق سيطرة دمشق، وحتى خارجها في ظل سيادة قوانين سابقة في مختلف الجغرافيات السورية الأخرى هي نتاج نصف قرن من سيطرة البعث على مقاليد البلاد ومؤسساتها وحياتها.
من المتوقع ألا تأتي انتخابات البعث بجديد سوى ضخ دماء سلطوية جديدة في بعض المفاصل الرئيسية للحكم تعيد إنتاج السلطة في جانبها البعثي الداعم لبقية الهياكل السياسية والأمنية والاقتصادية الباقية في مناطق سيطرة دمشق، وهي تغييرات قد لا تعني كثيراً من السوريين حتى في مناطق دمشق نفسها في ظل استمرار الكوارث الاقتصادية والاجتماعية وتصاعدها يوماً بعد آخر، لا بل إنّ هذه التغييرات سوف يستقرؤها بعض السوريين على أنها تعني استمرار أنماط التفكير القديمة وتأهليها من جديد لإدارة ملفات مستجدة على البلاد يجب التعاطي معها برؤية تعددية ومنفتحة مدركة لأهمية تجميع القوى السورية في رؤية سياسية واضحة تركّز على مسائل واقعية ومركزية بدءاً من هوية البلاد وهوية اقتصادها إلى دور الحكومة المركزية والمحليات والمجتمعات السورية ككل وتضعها جميعاً على طاولة الحوار الوطني للبحث فيها واجتراح الحلول لها.
مؤتمر “مسد” الأخير أعاد طرح أساسيات سبق له وضعها على طاولة التفاوض مع دمشق، مشدداً مرة جديدة على أن يكون حل الأزمة السورية “سورياً ـ سورياً” عبر الحوار والتفاوض المباشر، وفق القرارات الأممية ذات الصلة برعاية وضمانة دولية، مع رفض الحل العسكري والتركيز على الحوار السياسي. وكذلك دعا المجلس إلى تشكيل حكومة انتقالية ذات صلاحيات واسعة، وإيقاف العمل بالدستور الحالي وإعلان مبادئ دستورية، وتشكيل لجنة لصياغة مشروع دستور ديمقراطي توافقي جديد.
الدعوة الأخيرة لتشكيل دستور جديد تقف على نقيض محاولة تشكيل دستور سوري جديد برعاية أممية لم يقيّض لها النجاح منذ أكثر من ثمانية سنوات شاركت فيها دمشق وبعض قوى المعارضة المدعومة تركياً وبعض شخصيات المجتمع المدني وغابت عنها “مسد” في إشارة مبكرة من الأطراف المشاركة في تلك المحاولة إلى إقصاء تجربة سورية حاضرة على أرض الواقع بقوة، وكان يمكن لو كان قرار جنيف الدستوري ذاك سورياً، وسورياً فقط، لأن يشكل رافعة لانتقال ديمقراطي حقيقي مهما كانت هناك ملاحظات على “مسد” وعلى “قسد” من قبل هذه الأطراف، ولكن هذا لم يحدث.
مما لا شك فيه أنّ “اللامركزية” و”الحكم المحلي” هما عنصران أساسيان في أي دستور حقيقي وفاعل، وكِلا المسألتين تناولتهما دساتير سوريا السابقة بطرق اختلفت حسب سياقات كتابة تلك الدساتير السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولكنهما على العموم بقيتا رهناً بقرار المركز في تنفيذهما العملي، ومع اشتداد المركزية في عقود سابقة، تحوّل حديث اللامركزية ومعه حديث الحكم المحلي إلى مجرد كلام على الورق.
في الوقت الراهن، وبعد اثني عشر عاماً من الحرب بات واضحاً أنّ الدولة السورية لن تعود كما كانت في العام 2011، ليس فقط بسبب ظهور قوى جديدة فاعلة على المسرح السوري والإقليمي، بل لأن نموذج الحكم آنذاك لم يكن نموذجاً يتفق عليه كل السوريين بدون قوة إكراه واضحة، ومن غير المرجح، رغم الانتصارات العسكرية لحكومة دمشق، أن تستطيع “مسح” التغييرات الكبيرة التي حدثت على المسرح السوري لأنها فقدت الحد الأدنى من الثقة لدى قطاعات واسعة من المجتمعات السورية بما في ذلك ثقة قطاعات واسعة من المؤيدين لها.
كذلك، في المناطق التي لا تسيطر عليها دمشق، نشأت مؤسسات محلية بعيداً عن رقابة وتحكم المركز الشديدة، سواء في مناطق المعارضة في شمال غربي البلاد مثل الجامعات ومؤسسات الإدارة المحلية، أو في مناطق “الإدارة الذاتية” حيث تمّ في كانون الثاني 2014، تشريع اللامركزية (وهي كانت تمارس فعلياً منذ 2011) مع إنشاء مجالس إدارية محلية لإدارة الحياة اليومية في ثلاث مناطق رئيسة تقع تحت سيطرتها، ويأتي المؤتمر الأخير للإدارة لتأكيد المضي في تحسين التجربة ومحاولة إصلاح الأخطاء المتوقعة من كل تجربة جديدة وآخرها ما حدث في دير الزور قبل عدة أشهر.
من وجهة نظر اقتصادية، وهي أساس تشريع اللامركزية في القانون الأخير الذي يخص اللامركزية من وجهة نظر دمشق، أي القانون 107 العام 2011، فإنه لا يمكن بناء تنمية حقيقية مستدامة دون الاستماع إلى الأطراف التي تلعب دوراً رئيسياً في التخطيط لمستقبلها بالتشارك الفعال والمخطط مع المركز ضمن آليات ديمقراطية وتنموية مبنية على استكشاف السبل الواقعية للممكن والمطلوب ولما تمتلك هذه الأطراف من قوى ولما تحتاج.
ليس سهلاً ولا صحيحاً بالتأكيد بناء تصورات للامركزية سوريّة دون اجتماع كافة المكونات السورية حول الفكرة، وخاصة وأكثرها أهمية، ما هي ملامح نظام الحكم الذي سيقود الدولة والمجتمع في المراحل المقبلة، وما هو مدى قوة هذا النظام الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، إذ إنه مهما كان مدى اتساع اللامركزية المطلوبة، إلا أنّ مؤسسات المركز تبقى هي المرتكز في إنفاذ وصياغة أية عمليات لامركزية، وهناك كثير من التجارب التي توضح أنّ قوّة الدولة المركزية واحترام القانون وتنفيذه، هي المفتاح الأساسي للذهاب إلى لا مركزية ناجحة تحقق بناءً لهوية وطنية وديمقراطية مستمرة.