استشرافاً للأذى التركيّ في 2024

لا يحتاج توقع معظم ما سيحصل في سوريا العام المقبل إلى عناء كبير، بحسب المراقب أن يلحظ مقدار تشابه الأحداث خلال الأعوام القليلة الماضية، والحفاظ على وتيرة العمليات العسكرية ونطاقها، واستنقاع “الحل السياسي”، وصرف المجتمع الدولي اهتمامه بحل الأزمة السورية، وهو ما يعني أن أحوال السوريين ستزداد سوءاً على سوء. داخل هذه الدوّامة ستُبقي تركيا على سياساتها العدائية تجاه السوريين واستحكامها بقرار المعارضة السورية، وستبقي على استثمارها الأثير في الفصائل المسلحة الموالية لها، كما أن ما سيبقى هو عداؤها المباشر والمفتوح لكرد سوريا مشفوعاً بشنّ طائراتها المسيّرة هجمات على الأهداف المدنية والبنية التحتية في مناطق سلطة الإدارة الذاتية.

واقعياً، فقدت تركيا بوصلتها في سوريا، فهي تفكّر بما لا تريده، بينما لم تعد تفكّر بالذي تريده بالضبط، وهذه سمة سلبيّة عامة للدول التي تغوص في مستنقعات حروب دول الجوار الأهلية. لا تريد أنقرة إدارة ذاتية (لامركزية) يتمثّل فيها الكرد إلى جوار العرب والسريان، رغم أن أيّ أفق لحل الأزمة السورية بات يمرّ بإعادة تصوّر نظام لامركزيّ لكل سوريا. ولا تريد تركيا أيضاً بشار الأسد لوحده في السلطة دون أن تقول من ينبغي أن يكون شريكه في الحكم، فهي لا تفصح أيضاً عن علاقتها بهيئة تحرير الشام وأطنابها، ولا تشرح طبيعة علاقتها معهم. كما لا تريد للائتلاف أن يخرج من عبائتها دون أن تجد لهذا الكيان المتآكل أي صورة جديدة تشي بحضوره ووقف تدهور صورته وهُزال دوره في أعين السوريين. وأيضاً لا تريد تركيا أن تعمل مع السعودية والإمارات، فيما تسعى إلى إعادة علاقتها بهما لمعرفتها بثقلهما المتنامي في المنطقة وسوريا. إلى ذلك، لا تريد أنقرة بقاء اللاجئين السوريين على أراضيها رغم مساعيها إعادتهم بالمفرّق، مئات يتبعهم مئات، والوعد بإنشاء مجمّعات سكنية يمكن النظر إليها بأنها محض خيم اسمنتية لها دور واحد وهو أن تكون مستوطنات وأحزمة بشرية تحيط بالحدود التركية وتتصل بها مشيمياً وتتغذّى منها، ويتبع سكانها لسياساتها خاصة تلك التي ترمي إلى إعادة هندسة شمال سوريا.

إن قراءة ما ستقوم به تركيا خلال العام القادم يقودنا إلى تفكيك سرّ هذا العداء غير المبرّر لكرد سوريا، إذ إن العطب ليس في طبيعة السياسة الكردية السورية التي تسعى للإبقاء على حل القضية الكردية في إطار الدولة السورية وشرطاً للتحوّل الديمقراطي في البلاد، إنما المشكلة الأساسية في تركيا التي تبني سردية صراعها مع كرد سوريا على فكرة مفادها أن كل تقدّم في نيل كرد جوار تركيا لحقوقهم إنما هو صوت عالٍ سيكون له صدىً داخل تركيا. وواقعياً تبدو هذه المقاربة التركية صحيحة، إذ إن مصالح وآمال الكرد متشابكة ومتصلة بخيط مرئي لا تخطئه العين، ذلك أن كل تقدّم أيضاً في مسار حل القضية الكردية في تركيا سيكون له دوره الإيجابي على كرد جوارها. وداخل هذه المقاربة التركية العدمية لشكل حل القضية الكردية، داخلها وخارجها، فإن أفضل وسيلة للدفاع عن السياسات الفاشية للدولة تبدأ بالهجوم على التطلّعات الكردية مهما كانت واقعية أو عقلانية.

ترجئ الحكومات التركية النظر في قضية كردها بالتسويف والتأجيل أو باتباع العنف والقسوة، وهذا كله مبنيّ على ذهنية إنكار وجود قضية من أساسه؛ فمطلع العام الحالي أنكر الرئيس التركي وجود قضية كردية لأن القضية بحسبه “حلّت”، أما كيف؟ ومتى؟ فلا أحد يعلم ذلك، وخاصة الكرد. بهذا المعنى لا توجد قضية تستحق أن تجد لنفسها طريقاً للحل العادل والديمقراطي مهما خفّف الكرد من مطالباتهم أو طوّروا تصوراتهم لشكل الدولة الوطنية في الأجزاء التي تتقاسم الكرد وجغرافيتهم، وقد بات تحطيم الوجود السياسي الكردي، قبل المسلّح، كفيلاً لأن يقول أردوغان ومن سيليه في الحكم إن القضية الكردية قد حلّت، بعد أن كان شعار أردوغان في وقت سابق “إن زمن تجاهل حقوق الكرد ولى إلى غير رجعة”، وهو ما يعني أن الأردوغانية كمحتوى سياسي شعبوي بات يكثّف كل معاني البراغماتية المبتذلة فيما خص التعاطي مع القضية الكردية اعترافاً وتجاهلاً.

يبدو أن لا أفق، حتى وإن كان ضيّقاً، بوسعه كسر هذا التشاؤم المرتبط باستدامة الحرب التركية على كرد سوريا، ففي الساعات الماضية قصفت المدفعية التركية مجدداً قرى بريف منبج، ومنشآت نفطية وخدمية بريف القامشلي وديرك، وهو ما يعني أن القصف الذي بدأ في الخامس من أكتوبر/تشرين الأول من هذا العام وطاول المنشآت المدنية والخدمية والنفطية، أصبح المنهج الرسمي للحكومة التركية للتعامل مع مناطق شمال شرقي سوريا، خاصة أنه لا يستصحب ردّ فعل دولي أو أميركي، ولا يحظى باهتمام وكالات الإعلام الدولية.

نهاية عام 2019، عندما توصلت أنقرة إلى اتفاق مع كلّ من واشنطن وموسكو فيما خص انسحاب قوات سوريا الديمقراطية “قسد” كليو مترات عدة جنوب الحدود السورية التركية، وافقت قسد على الانسحاب سداً لذرائع تركيا المتحفّزة لشن حرب واسعة على شمال شرقي سوريا، وقتها استغرب المفاوضون الأميركيون سرعة استجابة قسد لشروط وقف الحرب، ولعل معرفة قسد بطبيعة وسياسة النظام التركي كان السبب المباشر في الموافقة التي يبدو أنها أحرجت تركيا وقطعت عليها الحجج، لكن إلى حين. أما كيف سيتم الوصول إلى اتفاق يوقف الاستهدافات التركية المتواصلة؟ وهل يمكن أن تتوقف إذا تمت إزاحة المنشآت النفطية والخدمية والمدن والبلدات والقرى المتاخمة للحدود كلها جنوباً هي الأخرى؟ على ما يحمله مثل هذا الافتراض الخيالي من سخرية سوداء.

يحمل العام المقبل كل ملامح العام الذي يوشك على الانتهاء، ولعل كل محاولة لإقناع تركيا ودفعها للتوقف عن عدوانها الجائر تبدو مستحيلة ما لم تتحرّك الولايات المتحدة لوقف جموح تركيا. هذه أيضاً تبدو خلاصة تحمل على التشاؤم.