منذر خدام
تعد مبادئ الشرعية الدولية التي عملت منظمة الأمم المتحدة على إرسائها منذ إنشائها المرجعية التي تُعاير بالقياس إليها جميع مواقف الدول وسلوكياتها في المجال الدولي. تتضمن هذه الشرعية جملة من المبادئ منها مبدأ المساواة في السيادة بين الدول، ومبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، ومبدأ عدم استخدام القوة في العلاقات الدولية، ومبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، ومبدأ احترام حقوق الإنسان دون تمييز يقوم على الجنس أو الدين أو اللون أو اللغة، ومبدأ تسوية النزاعات بالطرق السلمية، وغيرها من مبادئ، إضافة لما تتخذه المؤسسات الدولية، وعلى وجه الخصوص مجلس الأمن، من قرارات. من الناحية الإجرائية ينبغي معايرة مواقف الدول وسلوكياتها تجاه القضايا الدولية وفق مبدأ وحدة “المعيار”Unit standards) ) الذي يتطلب المساواة التامة بين الدول فيما يخص تطبيق الشرعة الدولية. وبالقياس إلى هذا المعيار تعد سلوكيات الدول أو مواقفها في المجال الدولي مشروعة في حال توافقها مع الشرعة الدولية، وفي غير ذلك فهي غير مشروعة.
يبين تاريخ تطبيق القانون الدولي أن التزام الدول بوحدة المعيار كان هو الاستثناء، وذلك بسبب التباين بين الدول سواء من حيث الحجم، أم المصالح، أم الدور، أم القدرة. إضافة إلى ذلك، وعلى وجه الخصوص، فإن وجود دول دائمة العضوية في مجلس الأمن جعل الالتزام بهذا المعيار غير متسق، ويخضع لحسابات المصالح الخاصة. ومع أن جميع الدول تعلن الالتزام بوحدة المعيار في القانون الدولي لكنها في الواقع تخالفه، وتمارس “ازدواجية المعايير”(Duality of standarts ) أو الكيل بمكيالين Double standarts) ) تجاه القضايا التي لا تتفق مع مصالحها.
واللافت أن الدول التي تخالف القانون الدولي هي الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، أو التي تظلها بحمايتها. وتكون المخالفة عادة إما بعدم التقيد بالنص القانوني، أو تكييف قراءته، أو تأجيل تطبيقه حتى تتغير الظروف فيصير بلا موضوع. من بين القضايا الدولية الكثيرة التي لم يطبق فيها القانون الدولي تعد قضية الشعب الفلسطيني المثال الأبرز. لقد شغلت هذه القضية الأمم المتحدة منذ إنشائها، وباتت تعرف بقضية الشرق الأوسط لاتساع نطاقها، بل وصارت قضية عالمية في الوقت الراهن. واللافت أن الأمم المتحدة ذاتها قد ساهمت في وجود هذه القضية، ومنذ ذلك الحين والدول الفاعلة فيها تتعامل معها بازدواجية المعايير، أو الكيل بمكيالين.
يؤكد الباحث (سعادي ربيعة،2021) من جامعة يحي فارس -المدية، في بحث له حول تطبيق الشرعية الدولية بأن جميع قرارات مجلس الأمن التي يكون موضوعها إحدى القضايا العربية لا يطبق أي منها. وبغض النظر عن صوابية هذا الاستنتاج المعمم على جميع قضايا الدول العربية، فإن تاريخ القضية الفلسطينية يثبت صحته. فمنذ صدور قرار تقسيم فلسطين وإنشاء دولة إسرائيل بقرار من مجلس الأمن، وحتى اليوم، لم تحترم إسرائيل أي قرار من قرارات مجلس الأمن، ولم يبدِ مجلس الأمن أية إرادة لتطبيقها رغم الحروب والكوارث التي نتجت عنها، ولا تزال تحدث، وكان آخرها ما يحصل اليوم في قطاع غزة. وأكثر من ذلك لم تحترم إسرائيل أي مبدأ من مبادئ الشرعة الدولية، بل كانت تخالفها دائماً.
لقد حالت إسرائيل دون إنشاء دولة فلسطينية كما نص على ذلك قرار التقسيم، بل ضمت كل الأراضي الفلسطينية بعد حرب عام 1967، وهي تقوم بتهويدها للقضاء على أية إمكانية لقيام هكذا دولة في الضفة الغربية وقطاع غزة. وأكثر من ذلك فهي لم تعاقب أبداً على انتهاكاتها المستمرة لسيادة العديد من الدول العربية ومنها سوريا ولبنان، حيث تحتل الجولان السوري وبعض الأراضي اللبنانية في مزارع شبعا وتلال كفر شوبا. وفي الوقت الذي يتم به حماية إسرائيل من المساءلة لخرقها الشرعية الدولية، تمارس الدول الحليفة لها ضغوطاً على الدول العربية للتطبيع معها.
ومثال آخر من الشرق الأوسط لسياسة الكيل بمكيالين (ازدواجية المعايير) تعد قضية الشعب الكردي نموذجية أيضاً. وبالمناسبة فإن الشعب الكردي اليوم هو أكبر شعب في العالم ليس له دولة خاصة به، علماً أنه من شعوب المنطقة، ومن حقه تقرير مصيره.
من الناحية التاريخية كان يفترض إنشاء دولة كردية منذ معاهدة سيفر عام 1920، على جزء من وطنه التاريخي، لكنها سرعان ما ألغيت بموجب معاهدة لوزان عام 1923. في الوقت الحاضر يعد الكرد (كما الفلسطينيون) من أكثر شعوب العالم تشتتا، وبموجب اتفاقية سايكس بيكو تم توزيع وطنهم على الدول المجاورة.
واللافت أيضاً أنه رغم تعاطف شعوب العالم مع حق الكرد في تقرير مصيرهم إلا أن المواقف الرسمية للدول الغربية (على الضد من مواقف شعوبها) غير متحمسة لذلك بذرائع واهية. من هذه الذرائع القول بأن قيام دولة كردية يمكن أن يؤدي إلى انهيار الخريطة الجيوسياسية القائمة، مما يهدد الأمن العالمي. من هذا المنطلق عارضت أغلب الدول الغربية الاستفتاء الذي أجري في إقليم كردستان العراق في 25 سبتمبر/أيلول 2017 والذي بين أن نحو 92% من سكان الإقليم يؤيدون الاستقلال. بهذا الخصوص قال الرئيس الألماني فرانك شتاينماير في حينه “إن ألمانيا ومعظم دول العالم قد أعربوا بوضوح عن معارضتهم لخطوة الاستفتاء على استقلال إقليم كردستان العراق، إذ إن من شأنها أن تؤدي إلى زعزعة استقرار المنطقة”.
وإذا كان أعداء الشعبين الفلسطيني والكردي معروفين، ومن غير المحتمل أن يتوها عنهم، فمن الأهمية بمكان، اليوم ودوماً، أن لا يتم الحكم على عدالة قضية أي منهما من خلال الصدف السياسية التي تشغل المشهد.