عدنان نعوف
“في تلك اللحظة كانت القوات مُشتَركةً. لا شيء تشترك فيه سوى الموت”. حين كان السياسي اللبناني “إلياس عطاالله” يروي شهادته في وثائقي على الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982، وتحديداً معركة “مثلث خلده”، ابتسمَ بمرارة العاجز عن تفسير تلاقي فلسطينيين ولبنانيين وسوريين على التصدي اليائس حينها لـ”عدّو واحد”. آنذاك أُبيدَتْ هذه القوى المُدافِعة، لكنها أوقفت التقدم الإسرائيلي لفترة بعد معركة وُصفت بالأسطورية.
كان من الطبيعي أن يشعر”عطاالله” بكوميديا سوداء لدى سرده تلك الوقائع، ذلك أن الساحة ازدحمت إبان الحرب الأهلية اللبنانية (1975_1990) بقوى تمثل أطراف صراع ذات غايات وتحالفات مختلفة. ما يجعل فكرة وجود هدف جامع لها مستغربة. فكيف إذا بدا وكأنها تعاقدت على الموت سويّة؟!.
يحمل الاستنتاج طابعاً فلسفياً، إلا أنه لا حاجة للفلسفة لفهم الشرق الأوسط، ولربط ماضيه بحاضره ولبنانه بعراقه وفلسطينه وسورياه، فوقائعه المتشابهة تبقي التأويلات على أرض التجارب.
وكما أن التشابه حاضر بقوة، فإنه لا يعني تصوير الأحداث كنسخة واحدة مكررة. إذ إن لكل زمان حيثياته وشخصياته. وكمثال، فإنه يستحيل تشبيه مقاتلين من “جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية” كجورج حاوي، أو من الفصائل الفلسطينية كالعقيد عبدالله صيّام، بنماذج اليوم الأقرب لشخصيات ألعاب الفيديو كأبي عبيدة وأشباهه من المقيمين في السراديب أو المرابطين في الفنادق. كذلك فإن الفرق كبير بين قوى عملت قدر استطاعتها لتحقيق تطلعات محازبيها، وبين ميليشيات لا تكترث إنْ أغرقَ طوفانها البلد ببحر من الدمّ، طالما أنها تنفذ مهمة لصالح جهات إقليمية مهووسة بأدوار الوساطة ومناكفة الغرب.
تتباين الحقائق خلف الصور الجديدة والقديمة إذاً، بينما تبقى أحداث غزة اليوم قادرة على رسم مشهد عام ممتد تاريخياً لفهم ما هو أعمق من اللحظة الراهنة وللإجابة على سؤال: ما الذي يجمع بين تجارب التغيير والنضال ضد عدو داخلي أو خارجي في المنطقة؟ ولماذا يسهل على ثائرين أن يصنعوا في كل مرّة من أرضهم “مقبرة” لهم وللغزاة في الوقت ذاته؟
لا شك أن المسألة غير متعلقة باستعصاء التعايش أو بصعوبة تمييز “العدو” من “الأخ” و”الصديق”، فضمن سياق اجتماعي تتنوع جذور الصراع ومَظاهرهُ بين الطبقي والعرقي والديني، ومنها يمكن استخلاص بُنى متماثلة بين بلدان المنطقة يَصحّ تسميتها بـ “أرضية ممهّدة للخراب” تبدو فيها الحالات الدولتية والسياسية الناجحة استثناءات على هامش فشل عام تمارس فيه ثورات ومقاومات دور الحروب أهلية أو التأسيس لها، بعيداً عن النوايا.
أمامَ ذلك قد يسلك الناس درباً مختصراً فيشخصون علّة بلادهم بكونها افتقدت لـ “عصر تنوير” مماثل لما عاشته أوروبا في القرنين الـ 17 والـ 18 والذي شكّل قاعدة لنظام سياسي واقتصادي وأخلاقي عبر خوض معركة العقلنة. وعلى إثرهِ يَجد أبناء الشرق الأوسط وكأنه لا مفرّ من أن يُوصفوا بـ “الشعوب العاطفية”، رغم ما يعكسه الوصف من كسل فكري واختزال ورغبوية مُطلِقِه.
تحيط بفكرة العاطفة هنا علامات استفهام لا تلغي حقيقة أنها ذات اتجاهين: العلاقة بالآخرين في المجتمع، والعلاقة بالغَيْب المُطالَب بالإجابة أو على الأقل الإنصات لسؤالنا:”ماذا فعلنا يا الله حتى يحدث لنا هذا كله؟”.
بالنتيجة تتكرر بمرور الزمن المظاهر ذاتها في مجتمعات التعويل إما على حلول السماء أو على أخلاق الشخص “البطل” للخلاص من الفساد ومن تسيّد العصابات والميليشيات واستباحتها لحياة الناس باسم القضايا.
ولدى الذهاب أبعد في تفنيد العامل العاطفي، فإنه يقود إلى طرح صادم وغريب وطارىء على علم الاجتماع السياسي الألماني عنوانه “السَّلس العاطفي، وفيما يشي العنوان بمبالغة، فإن الأهم ما يقع تحته من حديث عن “عدوانية المجتمع ضد ذاته”.
وباللجوء لمفاهيم علم النفس (مع الحذر من السقوط في الدجل المعرفي السائد) تحضر كلمات المفكر السوري جورج طرابيشي ومغامراته المنهجية خصوصاً في كتابه “المثقفون العرب والتراث..التحليل النفسي لعصاب جماعي”.
ومع الأخذ بالاعتبار أن طرابيشي ناقش تحديداً “المرض بالغرب” لدى مثقفين عرب، فإن السعي لتفسير دورة الإبادة المستمرة تُحتّم الإشارة إلى ما ذكره في كتابه بأن:”الخطاب العربي يقدم عينات من موقف طفلي يَعتبِرُ الآخرين جحيماً، وأن وجودهم هو بحد ذاته جرح نرجسي”.
يفتح كلام طرابيشي أبواباً واسعة لتأويل ماهية “الآخرين”؛ غربيين كانوا أم شرقيين متمايزين، وللسؤال عن تأثير التراث بمعناه العروبي المشروط بالإسلام. وبينما يصعب تخيل وضع “الأمة” بأكملها على سرير الطب النفسي، فإن تحليله يشكل منطلقاً لتأطير العامل الديني، ومحاولة إعادة ما يوصف بسلوكيات “الدروشة” و”السرسجة” و”الفلحنة” ومباركة الانتحار الجماعي إلى جذر مشترك.
تتعدد النماذج الدالّة على حالة المراوحة بالزّمن. ولعل النموذج الأكثر ارتباطاً بالحاضر هو “أعمال الشقاوة” و”التشليح” التي طبعت أشكالاً من تمرد الفلاحين وحركاتهم العامّية (نسبة إلى العامة) في فترة الحكم العثماني، وقام بتوثيقها المؤرّخ والباحث السوري عبد الله حنا.
أما لماذا تبدو هذه الأعمال ممتدة حتى اليوم وقابلة للتعميم على نطاق أوسع؟ فلأن ملامحها تكررت لاحقاً بطريقة ما أو بأخرى – تحت عناوين نضالية ثورية- سواء على صعيد النتائج العبثية المباشرة والبعيدة، أو على صعيد توظيف “القضية” لتبرير الدمار والعجز على السواء. وعليه فإن نمط الاحتجاج على الظلم جرى استنساخه. ولئن تجاوز البعض عبثيته وصنعوا نصراً مكتملاً أو بنوا دولاً بفضل عقيدة قومية صلبة أو طاعة “ولي أمر”، فإنه أسس في أماكن أخرى للخراب الآني وربما المستقبلي.
من الصعب طبعاً ربطُ مسار تحولات منطقة بمرحلة تاريخية واحدة. لكن قيمة توثيقات عبد الله حنّا تتجاوز مقارنة أحداث ببعضها البعض نحو حديثه عن أثر” النظام الإقطاعي الشرقي العثماني في تأخير ظهور الطبقة البورجوازية حاملة لواء الحرية والإخاء والمساواة بين الجميع”، وكيف اتسم حكم العثمانيين لبلاد الشام في فترات بصراعات المرتزقة، وبروز ما أسماه حنا “حكومات الحارات”، واستغلال الحكّام التخلف والجهل لتوجيه نقمة العامة ضد أبناء جلدتهم من أصحاب الانتماءات الأخرى، لتصبح مناهضة الظلم عملاً أعمى من بداياته إلى نهاياته.
لا أحد يستطيع أن يحدّد كم هي المنطقة عالقة في ماضيها. على أنّ منظومة العلاقات الثابتة بين الناس وترميزاتها وتعبيراتها السلوكية، والخطاب المرافق عسكرياً وسياسياً يوضح ضريبة افتقاد عقد اجتماعي يُحدّد بوضوح قيماً ومفاهيماً مثل:” المسؤولية، الواجب، الحق، القانون، الملكية المادية وغير المادية.
أي أن المأساة تطل برأسها من أبسط جزئية حين يمدّ أحدهم يده باسم “قضية” في الحرب أو السلم على ممتلكات غيره (بيته، ماله، أمانه، سلامته هو وأهله)، ويصرف “الصمود” من حساب شعبه وحساب العالم، مُبرراً هذا إما بالأخوّة أو النضال أو التضحية في سبيل الله، أو بتوفير الموت للجميع إحقاقاً لـ”العدل”.